فصل: فصل (الشّبه إذا انتُزع من الوصف)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أسرار البلاغة ***


فصل ‏[‏تنزيل الوجود منزلةَ العدم‏]‏

إن قال قائل‏:‏ إنّ تنزيل الوجود منزلةَ العدم، والعدِم منزلةَ الوجود، ليس من حديث التشبيه في شيء، لأن التشبيه أن تثبت لهذا معنًى من معاني ذاك، وحُكماً من أحكامه، كإثباتك للرجل شجاعة الأسد، وللحُجة حكم النُّور، في أنك تفصل بها بين الحق والباطل، كما يُفصل بالنور بين الأشياء، وإذا قلت في الرجل القليل المعاني‏:‏ هو معدوم، وقلت‏:‏ هو والعدم سواء، فلست تأخذ له شبهاً من شيء، ولكنك تنفيه وتُبطل وجوده، كما أنك إذا قلت‏:‏ ليس هو بشيء وليس برجل، كان كذلك، وكما لا يسمّى أحدٌ نحوَ قولنا‏:‏ ليس بشيء تشبيهاً، كذلك ينبغي أن لا يكون قولك‏:‏ وأنت تقلِّل الشيءَ أُخبرت عنه معدومٌ تشبيهاً، وكذلك إذا جعلت المعدوم موجوداً كقولك مثلاً للمال يذهب ويفنَى ويُثمر صاحبهُ ذكراً جميلاً وثناءً حسناً‏:‏ إنه باقٍ لك موجود، لم يكن ذلك تشبيهاً، بل إنكاراً لقول من نفى عنه الوجود، حتى كأنك تقول‏:‏ عينُه باقية كما كانت، وإنما استَبْدَل بصورة صورةً فصار جمالاً، بعد ما كان مالاً، ومكارمَ، بعد أن كان دراهم، وإذا ثبت هذا في نفس الوُجود والعدم، ثبت في كل ما كان على طريق تنزيل الصفة الموجودة كأنها غير موجودة، نحو ما ذكرت من جعل الموت عبارةً عن الجهل، فلم يكن ذلك تشبيهاً، لأنه إذا كان لا يُرَاد بجعل الجاهل ميّتاً إلا نفْي الحياة عنه مبالغةً ، ونفيُ العلم والتمييز والإحساس الذي لا يكون إلا مع الحياة، كان محصوله أنك لم تعتدُّ بحياته، وتركُ الاعتداد بالصفة لا يكون تشبيهاً، إنما نفيٌ لها وإنكارٌ لقول من أثبتها، فالجواب‏:‏ إن الأمر كما ذكرتَ، ولكنّي تتبّعتُ فيما وضعتُه ظاهرَ الحال، ونظرتُ إلى قولهم‏:‏ موجود كالمعدوم، وشيءٌ كلا شيء، ووجود شبيه بالعدم، فإن أبيتَ أن تعمل على هذا الظاهر لم أضايق فيه، إلا أن من حَقّك أن تعلم أنه لا غِنَى بك عن حفظ الترتيب الذي رتَّبْتُه في إعطاء المعقول اسم معقول آخر أعني لا بدّ من أن تعلم أنه يجيء على طريقين‏:‏ أحدهما‏:‏ تنزيل الوجود منزلة العدم، كما مضى من أنّ جعل الموت عبارةً عن الجهل، وإيقاعُ اسمه عليه يرجع إلى تنزيل حياته الموجودة كأنها معدومة، والثاني‏:‏ أن لا يكون هذا المعنى، ولكن على أنّ لأحد المعنيين شَبَهَاً من الآخر، نحو أن السؤال يُشبه، في كراهته وصُعوبته على نفس الحُرّ، الموتَ‏.‏ واعلم أني ذكرت لك في تمثيل هذه الأصول الواضحَ الظاهرَ القريبَ المتناوَلِ الكائنَ من قَبِيل المتعارف في كل لسان، وما تجد اعترافاً به وموافقةً عليه من كل إنسان، وما يشابه هذا الحدَّ ويشاكله، ويداخل هذا الضَّرب ويشاركه، ولم أذكر ما يدِقُّ ويغمُض، ويلطُف ويَغْرُب، وما هو من الأسرار التي أثارتْها الصنعة، وغاصت عليها فكرة الأفراد من ذوي البراعة في الشِّعر، لأن القصد إذا كان لتمهيد الأساس، ووضع قواعد القياس، كان الأوْلى أن أعمدَ إلى ما هو أظهر وأجلى من الأمثلة، لتكون الحجةُ بها عامّة لا يصرف وجهها بحال، والشهادةُ تامةً لا تجد من السامعين غير قبول وإقبال، حتى إذا تمّهدَت القواعد، وأُحكمت العُرَى والمَعَاقد، أُخِذ حينئذ في تتبُّع ما اخترعته القرائح، وعُمِد إلى حل المشكلات عن ثقةٍ بأنْ هُيّئَت المفاتح، هذا وفي الاستعارة بعدُ من جهة القوانين والأصول، شغلٌ للفكر، ومذهب للقول، وخفايا ولطائفُ تُبْرَز من حُجُبِها بالرِّفْق والتدريج والتلطُّف والتأنِّي، ولكني أظنُّ أنَّ الصوابَ أن أنْقُلَ الكلام إلى القول على التشبيه والتمثيل وحقيقتهما والمراد منهما، خصوصاً في كلام من يتكلم على الشعر، ونتعرّف أهما متساويان في المعنى، ومختلفان، أم جنسهما واحدٌ، إلا أن أحدهما أخصُّ من الآخر ? وأنا أضع لك جملة من القول تَبِين بها هذه الأمور،

التشبيه والتمثيل

أقسام التشبيه

اعلم أن الشيئين إذا شُبّه أحدهما بالآخر كان ذلك على ضربين أحدهما أن يكون من جهة أمرٍ بيّنٍ لا يحتاج إلى تأوّل، والآخر أن يكون الشبه محصّلاً بضرب من التأوّل، فمثال الأول‏:‏ تشبيهُ الشيّ بالشيء من جهة الصُّورة والشكل، نحو أن يشبَّه الشيء إذا استدار بالكرة في وجه، وبالحلقة في وجه آخر وكالتشبيه من جهة اللّون، كتشبيه الخدود بالورد، والشَعر بالليل، والوجه بالنهار، وتشبيه سِقْط النار بعين الديك، وما جرى في هذا الطريق وجمع الصُّورة واللون معاً، كتشبيه الثُّريّا بعنقود الكَرْم المنوَّر، والنرجس بمَدَاهن دُرٍّ حشُوهن عقيق، وكذلك التشبيه من جهة الهيئة نحو‏:‏ أنه مستوٍ منتصبٌ مديدٌ، كتشبيه قامة الرَّجل بالرمح، والقَدِّ اللطيفِ بالغصن ويدخل في الهيئةِ حالُ الحركات في أجسامها، كتشبيه الذاهب على الاستقامة بالسَّهم السديد، ومَنْ تأخذه الأريحيّةُ فَيهتزُّ بالغصن تحت البارح، ونحو ذلك وكذلك كل تشبيهٍ جَمَعَ بين شيئين فيما يدخل تحت الحواسّ، نحو تشبيهك صوتَ بعض الأشياء بصوت غيره، كتشبيه أطيطِ الرحل بأصوات الفراريج، كما قال‏:‏

كأنّ أصواتَ، من إيغالهنّ بنـا *** أواخرِ المَيْس إنقاضُ الفَرَاريج

تقدير البيت كأن أصوات أواخر الميس أصواتَ الفراريج من إيغالهن بنا ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله‏:‏ من إيغالهن وكتشبيه صَرِيف أنياب البعير بصياح البوازي، كما قال‏:‏

كأنَّ عَلَـى أنـيابـهـا سُـحْـرَةٍ *** صِياحَ البَوازي من صَرِيف اللَّوَائِك

وأشباه ذلك من الأصوات المشبهة له وكتشبيه بعض الفواكه الحلوة بالعسَل والسُكَّر وتشبيهِ اللِّين الناعم بالخزِّ، والخشن بالمِسْحِ، ورائحةِ بعض الرياحين برائحة الكافور ورائحة بعضها ببعضٍ كما لا يخفى، وهكذا التشبيه من جهة الغريزة والطباع، كتشبيه الرجل بالأسد في الشجاعة، وبالذئب في النُكْر، والأخلاقُ كلُّها تدخُل في الغريزةُ نحو السَّخاء والكرمَ واللؤم، وكذلك تشبيه الرجل بالرجل في الشدة والقوة وما يتصل بهما، فالشبه في هذا كلّه بَيّنٌ لا يجري فيه التأوُّل، ولا يُفتقَر إليه في تحصيله، وأيُّ تأوُّل يجري في مشابهة الخدّ للورد في الحمرة، وأنت تراها ها هنا كما تراها هناك? وكذلك تعلم الشَّجاعة في الأسد كا تعلمها في الرجل، ومثالُ الثاني‏:‏ وهو أشبه الذي يَحْصُل بضرب من التأوُّل، كقولك‏:‏ هذه حُجّةٌ كالشمس في الظهور، وقد شبّهت الحجةَ بالشمس من جهة ظهورها، كما شبَّهتَ فيما مَضَى الشيء بالشيء من جهة ما أردت من لون وصورة وغيرهما، إلا أنك تعلمَ أن هذا التشبيه لا يتمّ لكَ إلا بتأوُّل، وذلك أن تقول‏:‏ حقيقة ظُهور الشمس وغيرها من الأجسام أنْ لا يكون دونها حجابٌ ونحوُه، مما يحول بين العين وبين رؤيتها، ولذلك يظهر الشيءُ لك إذا لم يكن بينك وبينه حجابٌ، ولا يظهر لك إذا كنت من وراء حجاب، ثم تقول‏:‏ إن الشُبهة نظير الحجاب فيما يُدرَك بالعقول، لأنها تمنع القلب رؤيةَ ما هي شُبهة فيه، كما يمنع الحجاب العين أن ترى ما هو من ورائه، ولذلك تُوصف الشُبهة بأنها اعترضت دون الذي يروم القلبُ إدراكه، ويَصْرف فكرَه للوصول إليه من صحّةِ حكمِ وفساده، فإذا ارتفعت الشبهة وحصل العلم بمعنى الكلام الذي هو الحجّة على صحّة ما ادُّعي من الحكم قيل‏:‏ هذا ظاهرٌ كالشمس، أي ليس ها هنا مانعٌ عن العلم به، لا للتوقف والشكّ فيه مَسَاغٌ، وأنَّ المنكرَ له إمَّا مدخولٌ في عقله وجاحدٌ مُباهتٌ، ومُسرف في العناد، كما أن الشمس الطالعة لا يَشكُّ فيها ذو بصرٍ، ولا ينكرها إلاّ مَنْ لا عذر له في إنكاره، فقد احتجتَ في تحصيل الشبه الذي أَثبته بين الحجّة والشمس إلى مثل هذا التأوّل كما ترى‏.‏ ثم إنّ ما طريقُه التأوُّل يتفاوت تفاوتاً شديداً، فمنه ما يقربُ مأخذُه ويسهُل الوصول إليه، ويُعطَى المَقَادةَ طوعاً، حتى إنه يكاد يداخل الضرب الأول الذي ليس من التأول في شيء، وهو ما ذكرته لك ومنه ما يُحتاج فيه إلى قدر من التأمّل، ومنه ما يدقُّ ويغمُض حتى يُحتاج في استخراجه إلى فضل رويّةٍ ولُطْفِ فكرةٍ‏.‏ فمما يُشبه الذي بدأتُ به في قُرب المأخذ وسهولة المأتى، قوله في صفة الكلام‏:‏ ألفاظه كالماء في السلاسة، وكالنسيم في الرٍّقة، وكالعسل في الحلاوة، يريدون أن اللفظ لا يستغلِق ولا يشتبه معناه ولا يصعُب الوُقوف عليه، وليس هو بغريب وَحْشيّ يُستكرَه، لكونه غيرَ مألوف، وليس في حروفه تكريرٌ وتنافرٌ يُكَدُّ اللسانُ من أجلهما، فصارت لذلك كالماء الذي يسوغُ في الحلق، والنسيم يسري في البدن، ويتخلَّل المسالك اللطيفة منه، ويُهدي إلى القلب رَوْحاً، ويُوجد في الصدر انشراحاً، ويُفيد النفس نشاطاً، وكالعسل الذي يَلَذُّ طعمه، وتَهِشُّ النفس له، ويميل الطبع إليه، ويُحَبُّ ورودُه عليه، فهذا كله تأوّلٌ، وردُّ شيء إلى شيء بِضربٍ من التلطف، وهو أدخل قليلاً في حقيقة التأوّل، وأقوى حالاً في الحاجة إليه، من تشبيه الحجّة بالشمس، وأما ما تقوَى فيه الحاجة إلى التأوُّل حتى لا يُعرَف المقصود من التشبيه فيه ببديهة السماع، فنحو قول كَعْبٍ الأشقريّّ، وقد أوفده المهَلَّب على الحجّاج، فوصف له بنيه وذكر مكانهم من الفضل والبأس، فسأله في آخر القصّة قال‏:‏ فكيف كان بنو المهلب فيهم? قال‏:‏ كانوا حُماة السَرْح نهاراً، فإذا أليَْلُوا ففرسان البَيَات، قال‏:‏ فأيُّهم كان أنجد? قال‏:‏ كانوا كالحلْقة المفرغة لا يُدرَى أين طَرَفاها، فهذا كما ترى ظاهر الأمر في فَقْره إلى فضل الرِّفق به والنظر، ألا ترى أنه لا يفهمه حقَّ فَهْمه إلا من له ذهن ونَظَرٌ يرتفع به عن طبقة العامّة؛ وليس كذلك تشبيه الحجّة بالشمس، فإنه كالمشتركِ البَيّن الاشتراك، حتى يستوي في معرفته، اللبيبُ واليقِظُ والمضعوفُ المغفَّل، وهكذا تشبيه الألفاظ بما ذكرت، قد تجده في كلام العامي‏.‏ فأمَّا ما كان مذهبه في اللُّطف مذهبَ  قوله‏:‏ هم كالحلقة، فلا تراه إلا في الآداب والحِكَم المأثورة عن الفضلاء وذوِي العقول الكاملة‏.‏وله‏:‏ هم كالحلقة، فلا تراه إلا في الآداب والحِكَم المأثورة عن الفضلاء وذوِي العقول الكاملة‏.‏

‏[‏الفرق بين التشبيه والتمثيل‏]‏

وإذ قد عرفتَ الفَرْقَ بينن الضَّربين، فاعلم أن التشبيه عامٌّ والتمثيل أخصّ منه، فكل تمثيلٍ تشبيهٌ، وليس كلّ تشبيهٍ تمثيلاً، فأنت تقول في قول قيس بن الخطيم‏:‏

وقد لاَحَ في الصُّبح الثريَّا لمن رَأَى *** كَعُنْقُودِ مُـلاَّحِـيَّةٍ حِـينَ نَـوَّر

إنه تشبيه حسن، ولا تقول‏:‏ هو تمثيل، وكذلك تقول‏:‏ ابنُ المعتزّ حَسَنُ التشبيهات بديعُها، لأنك تعني تشبيهه المبصَرات بعضَهَا ببعض، وكلَّ ما لا يوجد الشبه فيه من طريق التأوّل، كقوله‏:‏

كأنَّ عُيونَ النَّرْجِسِ الغضِّ حَوْلها *** مَدَاهِنُ دُرٍّ حَشْوُهـنَّ عـقـيقُ

وقوله‏:‏

وأرَى الثُّريّا في السَّماء كأنَّها *** قَدْ تَبَدَّت من ثِـيابِ حِـدَادِ

وقوله‏:‏

وتـرومُ الـثُّـريا *** في الغُرُوبِ مَرَاما

كانكبـاب طِـمِـرِّ *** كادَ يُلقَى اللِّجَامَ

وقوله‏:‏

قد انْقَضَتْ دَولَةُ الصيام وَقَد *** بَشَّرَ سُقْم الهِلالِ بِالـعِـيدِ

يتلو الثريا كفاغـرٍ شَـرِهٍ *** يفتح فاه لأكلِ عـنـقـودِ

وقوله‏:‏

لَمَّا تَعَرَّى أُفُقُ الـضِّـياءِ *** مثلَ ابتسام الشَّفَة اللَّمْـياءِ

وَشمِطَتْ ذَوائِبُ الظَّلمـاءِ *** قُدْنا لِعين الوَحْش والظِّباء

داهيةً مَحذُورةَ الـلِّـقـاءِ *** وَيَعْرِفُ الزَّجْر من الدُّعاءِ

بأُذُنِ سـاقـطةِ الأرجـاءِ *** كوَرْدِةِ السَّوْسَنة الشَّهبـاءِ

ذَا بُرْثُن كمِثْقَبِ الـحـذَّاءِ *** ومُقْلةٍ قـلـيلةِ الأقـذاءِ

صافية كقطرةٍ من مـاءِ

 

 

وما كان من هذا الجنس ولا تُريد نحو قوله‏:‏

اصبر على مضَض الحسو *** دِ فإنّ صَبْرَك قـاتِـلُـهْ

فالنَّارُ تأكلُ نَـفْـسَـهَـا *** إن لَمْ تَجِدْ ما تـأكـلُـهْ

وذلك أن إحسانه في النوع الأول أكثر، وهو به أشهر‏.‏ وكل ما لا يصحّ أن يسمَّى تمثيلاً فلفظ المثل لا يُستعمل فيه أيضاً، فلا يقال‏:‏ ابن المعتزّ حسن الأمثال، تريد به نحو الأبيات التي قدّمتُها، وإنما يقال‏:‏ صالح بن عبد القدُّوس كثير الأمثال في شعره، يراد نحو قوله‏:‏

وإنَّ مَنْ أَدَّبْتَهُ في الـصِّـبـا *** كالعُودِ يُسقَى الماءَ في غَرْسِهِ

حتَّى تراهُ مُورقَـاً نـاضـراً *** بَعْد الذي أبصرتَ مِنْ يُبْسِـه

وما أشبهه، مما الشبه فيه من قبيل ما يجري في التأوّل، ولكن إن قلت في قول ابن المعتز‏:‏

فالنار تأكُلُ نَفْسهـا *** إن لم تجد ما تأْكُلُهْ

إنه تمثيل، فمثل الذي قلتُ ينبغي أن يُقال، لأن تشبيه الحسود إذا صُبِر وسُكِتَ عنه، وتُرك غيظُه يتردّد فيه بالنار التي لا تُمَدُّ بالحطب حتى يأكُلَ بعضها بعضاً، مما حاجتهُ إلى التأوُّل ظاهرة بيّنة‏.‏ فقد تبيّن بهذه الجُملة وجهُ الفرق بين التشبيه والتمثيل، وفي تتبّع ما أجملتُ من أمرهما، وسلوكِ طريقِ التحقيق فيهما، ضربٌ من القول ينشَط له من يأْنَسُ بالحقائق‏.‏

فصل ‏[‏شبهة الانقسام‏]‏

اعلم أن الذي أوجب أن يكون في التشبيه هذا الانقسام، أنّ الاشتراك في الصفة يقع مرّةً في نفسها وحقيقة جنسها، ومرةً في حُكْمٍ لها ومقتضًى، فالخدُّ يشارك الورد في الحمرة نفسها وتجدها في الموضعين بحقيقتها واللفظ يشارك العسل في الحلاوة، لا من حيث جنسه، بل من جهة حكمٍ وأمرٍ يقتضيه، وهو ما يجده الذائق في نفسه من اللَّذَّة، والحالة التي تحصل في النفس إذا صادفت بحاسّة الذَّوق ما يميل إليه الطبع وَيَقَعُ منه بالموافقة، فلمَّا كان كذلك، احتيج لا محالة إذا شُبّه بالعسل في الحلاوة أن يبيَّن أنَّ هذا التشبيه ليس من جهة الحلاوة نفسها وجنسها، ولكن من مقتضًى لها، وصفةٍ تتجدَّد في النفس بسببها، وأنَّ القصد أن يُخبَر بأنَّ السامع يجد عندَ وقوع هذا اللفظ في سمعه حالةً في نفسه، شبيهةً بالحالة التي يجدها الذائق للحلاوة من العسل، حتى لو تمثَّلت الحالتان للعيون، لكانتا تُرَيان على صورة واحدة، ولَوُجدتا من التناسب على حدّ الحمرة من الخدّ، والحمرة من الورد، وليس ها هنا عبارة أخصّ بهذا البيان من التأوّل، لأن حقيقة قولنا‏:‏ تأوّلتُ الشيء، أنك تطلّبت ما يؤُول إليه من الحقيقة، والموضعَ الذي يؤول إليه من العقل، لأن أوَّلتُ وتأوَّلتُ فَعَّلتُ وتَفَعّلتُ من آل الأمر إلى كذا يؤُول، إذا انتهى إليه، والمآل، المرجع وليس قولُ من جعل أوَّلتُ وتأَوَّلتُ من أَوَّل بشيء، لأن ما فاؤه وعينه من وضع واحد ككوكب ودَدَن لا يُصرَّف منه فعلٌ، وأوّل أفعلُ بدلالة قولنا‏:‏ أوّلُ منه، كقولنا‏:‏ أسبق منه وأقدم، فالواو الأولى فاءٌ والثانية عينٌ وليس هذا موضع الكلام في ذلك فيستقصَى، وأما الضرب الأول، فإذا كان المثْبَت من الشَبَه في الفرع من جنس المثْبَت في الأصل، كان أصلاً بنفسه، وكان ظاهرُ أمره وباطنُهُ واحداً، وكان حاصل جمعك بين الورد والخد، أنك وجدت في هذا وذاك حمرةً، والجنس لا تتغير حقيقته بأن يوجد في شيئان، وإنما يُتصوَّر فيه التفاوت بالكثرة والقلّة والضعف والقوة، نحوَ أن حمرةَ هذا الشيء أكثر وأشد من حمرة ذاك، وإذا تقرَّرتْ هذه الجملة، حصل من العلم بها أن التشبيه الحقيقي الأصلي هو الضرب الأول، وأن هذا الضرب فرع له ومرتَّب عليه، ويزيد ذلك بياناً‏:‏ أنّ مدار التشبيه على أنه يقتضي ضرباً من الاشتراك، ومعلوم أن الاشتراك في نفس الصفة، أسبقُ في التصوُّر من الاشتراك في مقتضَى الصفة كما أن الصفة نفسها مقدَّمة في الوهم على مقتضاها، فالحلاوة أوّلاً، ثم إنها تقتضي اللذّة في نفس الذائق لها، وإذا تأملنا متصرَّف تركيبه، وجدناه يقتضي أن يكون الشيئان من الاتفاق والاشتراك في الوصف، بحيث يجوز أن يُتَوهَّم أن أحدَهما الآخرُ، وهكذا تراه في العرف والمعقول، فإنّ العقلاء يؤكّدون أبداً أمر المشابهة بأن يقولوا‏:‏ لا يمكنك أن تفرق بينهما، ولو رأيت هذا بعد أنْ رأيت ذاك لم تعلم أنك رأيت شيئاً غير الأوّل، حتى تستدلَّ بأمر خارج عن الصُّورة، ومعلومٌ أن هذه القضية إنما توجد على الإطلاق والوجودِ الحقيقيِ في الضرب الأول وأمَّا الضربُ الثاني، فإنما يجيء فيه على سبيل التقدير والتنزيل، فأما أن لا تجد فصلاً بين ما يقتضيه العَسل في نفس الذائق، وما يحصل باللفظ المرضيّ والكلام المقبول في نفس السامع، فما لا يمكن ادّعاؤه إلاّ على نوع من المُقاربة والمجازفة، فأمَّا على التحقيق والقطع فَلاَ، فالمشابهاتُ المتأوَّلة التي ينتزعها العقل من الشيء للشيء، لا تكون في حدّ المشابهات الأصلية الظاهرة، بل الشبه العقلي كأنَّ الشيء به يكون شبيهاً بالمشبّه‏.‏

فصل ‏[‏الشبه العقلي‏]‏

 ثم إن هذا الشبه العقلي ربما انتُزع من شيء واحد، كما مضى انتزاع الشَّبه للفظ من حلاوة العسل وربما انتزع من عِدَّة أمورِ يُجْمَع بعضها إلى بعض، ثم يُستخرَج من مجموعها الشَبَهُ، فيكون سبيلهُ سبيلَ الشيئين يُمزَج أحدهما بالآخر، حتى تحدُث صورة غير ما كان لهما في حال الإفراد، لا سبيل الشيئين يَجمَع بينهما وتُحفَظ صورتهما، ومثالُ ذلك قوله عزّ وجل‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَار يَحْمِلُ أسْفَارَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏5‏]‏، الشبهُ منتزع من أحوال الحمار، وهو أنه يحمل الأسفار التي هي أوعية العلوم ومستودَعُ ثَمَر العقول، ثم لا يُحسّ بما فيها ولا يشعر بمضمونها، ولا يفرِّق بينها وبين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شيء، ولا من الدَّلالة عليه بسبيل، فليس له مما يحمل حظٌّ سوى أنه يثقُلُ عليه، ويكُدُّ جنبيه فهو كما ترَى مُقْتضَى أمورٍ مجموعةٍ، ونتيجةٌ لأشياءَ أُلّفت وقُرن بعضها إلى بعض، بيانُ ذلك‏:‏ أنه احتيج إلى أن يراعَى من الحمار فعلٌ مخصوص، وهو الحمل، وأن يكون المحمول شيئاً مخصوصاً، وهو الأسفار التي فيها أماراتٌ تدلّ على العلوم، وأن يُثلَّثَ ذلك بجهل الحمار ما فيها، حتى يحصل الشبه المقصود، ثم إنه لا يحصلُ من كل واحدٍ من هذه الأمور على الانفراد، ولا يُتصوّر أن يقال إنه تشبيه بعد تشبيه، من غير أن يقف الأول على الثّاني، ويدخل الثاني في الأول، لأن الشَّبه لا يتعلق بالحمل حتى يكون من الحمار، ثم لا يتعلق أيضاً بحَمْلِ الحمار حتى يكون المحمول الأسفار، ثم لا يتعلق بهذا كله حتى يقترن به جَهْل الحمار بالأسفار المحمولة على ظهره فما لم تجعله كالخيط الممدود، ولم يُمزَج حتى يكون القياسُ قياسَ أشياءَ يُبالغ في مِزاجها حتى تَتَحد وتخرُجَ عن أن تُعرَف صُورةُ كلِّ واحد منها على الانفراد، بل تبطُل صُوَرها المفردةُ التي كانت قبل المِزاج، وتحدُث صورةٌ خاصة غير اللواتي عهِدتَ، وتحصُلُ مَذَاقَةٌ لو فرضتَ حصولها لك في تلك الأشياء من غير امتزاج، فرضتَ ما لا يكون لم يتمَّ المقصود، ولم تحصل النتيجة المطلوبةُ، وهي الذمُّ بالشقاء في شيء يتعلق به غرضٌ جليلٌ وفائدةٌ شريفةٌ، مع حِرمان ذلك الغرض وعدمِ الوصول إلى تلك الفائدة، واستصحاب ما يتضمن المنافع العظيمة والنعم الخطيرة، من غير أن يكون ذلك الاستصحاب سبباً إلى نَيْلِ شيء من تلك المنافع والنِّعم، ومثال ما يجيء فيه التشبيه معقوداً على أمرين إلا أنهما لا يتشابكان هذا التشابك قولُهم‏:‏ هو يَصْفُو ويكدر ويَمُرُّ ويحلُو ويشُجُّ وَيأْسُو، ويُسرِحُ ويُلجم، لأنك وإن كنت أردت أن تجمع له الصِّفتين، فليست إحداهما ممتزجة بالأخرى، لأنك لو قلت‏:‏ هو يصفو، ولم تتعرض لذكر الكدر وقلت‏:‏ يحلو، ولم يسبق ذكر يَمُرُّ، وجدت المعنى في تشبيهك له بالماء في الصَّفاء وبالعسل في الحلاوة بحاله وعلى حقيقته، وليس كذلك الأمر في الآية لأنك لو قلت‏:‏ كالحِمار يَحْمِل أسفاراً، ولم تعتبر أن يكون جهل الحمار مقروناً بحمله، وأن يكون متعدِّياً إلى ما تَعدَّى إليه الحمل، لم يتحصل لك المغَزَى منه، وكذلك لو قلت‏:‏ هُمْ كالحمار في أنه يجهل الأسفار، ولم تشرط أن يكون حمله الأسفارَ مقروناً بجهله لها لكان كذلك، وكذلك لو ذكرت الحمل والجهل مطلقين، ولم تجعل لهما المفعول المخصوص الذي هو الأسفار، فقلتَ‏:‏ هو كالحمار في أنه يحمل ويجهل، وقعتَ من التشبيه المقصود في الآية بأبعد البُعد، والنكتةُ أن التشبيه بالحمل للأسفار، إنما كان بشَرْط أن يقترن به الجهل، ولم يكن الوصف بالصَّفاء والتشبيه بالماء فيه بشرط أن يقترن به الكدر، ولذلك لو قلتَ‏:‏ يصفو ولا يكدر لم تزد في صميم التشبيه وحقيقته شيئاً، وإنما استدمتَ الصِّفة كقولك‏:‏ يصفو أبداً وعلى كل حال‏.‏

فصل ‏[‏الشّبه إذا انتُزع من الوصف‏]‏

 اعلم أن الشّبه إذا انتُزع من الوصف لم يَخْلُ من وجهين أحدهما أن يكون لأمرٍ يرجع إلى نفسه والآخر أن يكون لأمر لا يرجع إلى نفسه، فالأوّل ما مضى في نحو تشبيه الكلام بالعسل في الحلاوة، وذلك أنّ وجه التشبيه هناك أنّ كل واحد منهما يوجب في النفس لَذّة وحالة محمودةً، ويصادف منها قبولاً، وهذا حُكْمٌ واجب للحلاوة من حيث هي حلاوة، وللعسل من حيث هو عسل، وأما الثاني وهو ما يُنتزع منه الشبه لأمرٍ لا يرجع إلى نفسه، فمثاله أن يتعدَّى الفعل إلى شيء مخصوص يكون له من أجله حُكمٌ خاصٌّ، نحوَ كونه واقعاً في موقعه وعلى الصواب، وواقعاً غير موقعه، كقولهم هو كالقابض على الماء والراقم في الماء، فالشبهُ ها هنا منتزع مِمّا بين القَبْض والماء، وليس بمنزع من القبض نَفْسه، وذلك أن فائدة قبض اليد على الشيء أن يحصل فيها، فإذا كان الشيء مما لا يتماسك، ففعلك القبضَ في اليد لغوٌ وكذلك القصد في الرَّقْم أن يبقَى أثرٌ في الشيء، وإذا فعلتَه فيما لا يقبله، كان فعلُك كلا فعلٍ وكذلك قولهم‏:‏ يضرب في حديد بارِدٍ وينفخ في غَيْرِ فَحَمٍ، وإذا ثبت هذا فكل شَبهِ كان هذا سبيلهُ، فإنك لا تجد بين المعنى المذكور وبين المشَّبه إذا افردته، ملابسةً البتة، ألاتراك تَضْرِب الرّقم في الماء والقَبْضَ عليه، لأمور لا شبَهَ بينهما وبينها البتة، من حيث هُما رَقْمٌ وقبضٌ، وإذا قد عرفتَ هذا فالحمل في الآٍية من هذا القبيل أيضاً، لأنه تضمّن الشَّبه من اليهود، لا لأمرٍ يرجع إلى حقيقة الحمل، بل لأمرين آخرين‏:‏ أحدُهما تعدّيه إلى الأسفار، والآخر اقتران الجهل للأسفار به، وإذا كان الأمر كذلك، كان قَطْعُك الحملَ عن هذين الأمرين في البُعد من الغرض، كقَطْعكَ القَبْض والرَّقْم عن الماء، في استحالة أن يُعقَل منها ما يُعقَل بعد تعدّيهما إلى الماء بوجه من الوجوه فاعرفه‏.‏ فإن قلت‏:‏ ففي اليهود شبهٌ من الحمل، من حيث هو حملٌ على حالٍ، وذلك أن الحافظ للشيءِ بقلبه، يُشبه الحاملَ للشيءِ على ظهره، وعلى ذلك يقال‏:‏ حَمَلةُ الحديث، وحَمَلةُ العلم كما جاء في الأثر‏:‏ يحمِلُ هذا العلمَ من كُلّ خَلَفٍ عُدولُهُ، ورُبَّ حَامِل فقهِ إلى مَن هو أفقه منه، فالجواب أن الأمر وإن كان كذلك، فإنّ هذا الشبه لم يُقصَد ها هنا وإنما قُصد ما يوجبه تعدِّي الحملِ إلى الأسفار، مع اقتران الجهل بها به، وهو العناء بلا منفعة، يُبيِّن ذلك‏:‏ أنك قد تقول للرجل يحمل في كُمّه أبداً دفاتر علمٍ، وهو بليد لا يفهم، وكسلان لا يتعلم‏:‏ إن كان يحمل كُتُب العلم فالحمار أيضاً قد يحمل، تريد أن تُبطل دعواه أن له في حمله فائدة، وأن تسوَّيَ بينه وبين الحمار في فقد الفائدة مما يحمل، فالحمل ها هنا نفسه موجود في المشبَّه بالحمار، ثم التشبيه لا ينصرف إليه من حيث هو حملٌ، وإنما ينصرف إلى ما ذكرت لك من عدم الجدوى والفائدة، وإنما يُتَصوّر أن يكون الشَّبه راجعاً إلى الحمل من حيث هو حمل، حيث يوصف الرجل مثلاً بكثرة الحفظ للوظائف، وجَهْد النفس في الأشغال المتراكمة، وذلك خارجٌ عن الغرض مما نحن فيه، ومن هذا الباب قولهم‏:‏ أخذ القوسَ باريها، وذلك أن المعنى على وقوع الأخذِ في موقعه ووجودهِ من أهله، فلستَ تُشبّهه من حيث الأخْذُ نفسُه وجنسه، ولكن من حيث الحكمُ الحاصلُ له بوقوعه من باري القوس على القوس، وكذلك قولهم‏:‏ ما زال يَفْتِل منه في الذِّرْوةِ والغارب الشبه مأخوذٌ ما بين الفتل وما تَعدَّى إليه من الذِّروة والغارب، ولو أفردته لم تجد شبهاً بينه وبين ما يُضرَب هذا الكلام مثلاً له، لأنه يُضرَب في الفِعْل والقول يُصرَف به الإنسان عن الامتناع إلى الإجابة، وعن الإباء عليك مُرادك، إلى موافقتك والمصير إلى ما تريد منه، وهذا لا يُوجَد في الفتل من حيث هو فتلٌ، وإنما يوجد في الفتل إذا وقع في الشَّعر من ذروة البعير وغَاربه، واعلم أن هذا الشبه حُكْمُهُ واحدٌ، سواءٌ أخذته ما بين الفعل والمفعول الصريح، وما يجري مجرى المفعول، فالمفعول كالقوس في قولك‏:‏ أخذ القوسَ باريها، وما يجري مجرى المفعول، الجارُّ مع المجرور، كقولك‏:‏ الرَّقم في الماء وهو كمن يخطّ في الماء، وكذلك الحال، كقولهم‏:‏ كالحادي وليسَ له بَعيرٌ، فقولك‏:‏ وليس له بعير، جملة من الحال، وقد احتاج الشبه إليها، لأنه مأخوذ ما بين المعنى الذي هو  الحدو، وبين هذه الحال، كما كان مأخوذاً بين الرقم والماء، وما بين الفتل والذروة والغارب، وقد تجد بك حاجةً إلى مفعول وإلى الجارّ مع المجرور كقولك‏:‏ وهل يُجمَع السيفَان في غِمد، وأنت كمن يجمع السيفين في غِمد، ألا ترى أن الجمع فيه لا يُغني بتعدّيه إلى السيفين، حتى يُشترط كونه جمعاً لهما في الغمد? فمجموع ذلك كله يُحصِّل الغَرَضَ، وهكذا نحو قول العامّة‏:‏ هو كثير الجَوْر على إلْفه، وقولهم‏:‏ كَمُبْتَغِي الصَّيدَ في عِرِّيسةِ الأسد، لأن الصيدَ مفعول وفي عِرِّيسةِ جارٌّ مع المجرور، فإذا ثبت هذا ظهر منهُ أنه لا بدَّ لك في هذا الضرب من الشَّبَه من جملة صريحة وحكم الجملة، فالجملة الصريحة قولك‏:‏ أخذَ القوسَ باريها وحكم الجملة أن تقول‏:‏ هذا منك كالرَّقم في الماء، وكالقابض على الماء، فتأتي باسم الفاعل، وذَاك أنّ المصدر واسمَ الفاعل ليسَا بجُملتين صريحاً ولكن حكم الجملة قائم فيهما، وهو أنك أعملتهما عَمَل الفعل، ألا ترى أنك عدَّيتهما على حسب ما تعدَّى الفعل? وخصائص هذا النوع من التمثيل أكثر من أن تضبط، وقد وقفتك على الطريقة،دو، وبين هذه الحال، كما كان مأخوذاً بين الرقم والماء، وما بين الفتل والذروة والغارب، وقد تجد بك حاجةً إلى مفعول وإلى الجارّ مع المجرور كقولك‏:‏ وهل يُجمَع السيفَان في غِمد، وأنت كمن يجمع السيفين في غِمد، ألا ترى أن الجمع فيه لا يُغني بتعدّيه إلى السيفين، حتى يُشترط كونه جمعاً لهما في الغمد? فمجموع ذلك كله يُحصِّل الغَرَضَ، وهكذا نحو قول العامّة‏:‏ هو كثير الجَوْر على إلْفه، وقولهم‏:‏ كَمُبْتَغِي الصَّيدَ في عِرِّيسةِ الأسد، لأن الصيدَ مفعول وفي عِرِّيسةِ جارٌّ مع المجرور، فإذا ثبت هذا ظهر منهُ أنه لا بدَّ لك في هذا الضرب من الشَّبَه من جملة صريحة وحكم الجملة، فالجملة الصريحة قولك‏:‏ أخذَ القوسَ باريها وحكم الجملة أن تقول‏:‏ هذا منك كالرَّقم في الماء، وكالقابض على الماء، فتأتي باسم الفاعل، وذَاك أنّ المصدر واسمَ الفاعل ليسَا بجُملتين صريحاً ولكن حكم الجملة قائم فيهما، وهو أنك أعملتهما عَمَل الفعل، ألا ترى أنك عدَّيتهما على حسب ما تعدَّى الفعل? وخصائص هذا النوع من التمثيل أكثر من أن تضبط، وقد وقفتك على الطريقة،  فهذا أحد الوجوه التي يكون الشَّبه العقلي بها حاصلاً لك من جملة من الكلام، وأظنّه من أقوى الأسباب والعِلَل فيه، وعلى الجملة، فينبغي أن تعلم أن المثَل الحقيقي، والتشبيه الذي هو الأوْلَى بأن يسمَّى تمثيلاً لبُعده عن التشبيه الظاهر الصريح، ما تجدُه لا يحصل لك إلا من جملة من الكلام وجملتين وأكثر، حتى إنّ التشبيه كلما كان أوغل في كونه عقليّاً محضاً، كانت الحاجة إلى الجملة أكثر، ألا ترَى إلى نحو قوله عزَّ وجل‏:‏ ‏{‏إنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَِّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأنْعَامُ حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنُّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أتَاهَا أمْرُنَا لَيْل ونهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْس‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏42، كيف كثُرت الجُمل فيه? حتى إنك تَرَى في هذه الآية عَشْرَ جمل إذا فُصِّلت، وهي وإن كان قد دخل بعضُها في بَعْض حتى كأنها جملةٌ واحدة، فإن ذلك لا يمنعُ من أن تكون صُور الجمل معنا حاصلةً تشير إليها واحدةً واحدةً، ثم إنّ الشَبَه مُنْتَزع من مجموعها، من غير أن يمكن فَصْلُ بعضها عن بعض، وإفرادُ شطر من شطر، حتى إنك لو حذفت منها جملةٌ واحدةٌ من أيّ موضع كان، أخلَّ ذلك بالمغزى من التشبيه، ولا ينبغي أن تعدَّ الجُمل في هذا النحو بعَدِّ التشبيهات التي يُضَمّ بعضها إلى بعض، والأغْراض الكثيرة التي كل واحدٍ منها منفردٌ بنفسه، بل بعدّ جُمَلٍ تُْنسَق ثانيةٌ منها على أوَّلةٍ، وثالثةٌ على ثانية، وهكذا، فإنّ ما كان من هذا الجنس لم تترتّب فيه الجمل ترتيباً مخصوصاً حتى يجب أن تكون هذه سابقةً وتلك تالية والثالثة بعدهما، ألا ترى أنك إذا قلت‏:‏ زيد كالأسد بأساً، والبحر جُوداً، والسيفِ مضاءً، والبدرِ بَهَاءً، لم يجب عليك أن تحفظ في هذه التشبيهات نِظاماً مخصوصاً? بل لو بدأتَ بالبدر وتشبيهه به في الحسن، وأخّرتَ تشبيهه بالأسد في الشجاعة، كان المعنى بحاله، وقولُهُ‏:‏

النَّشْرُ مِسْكٌ والوجوهُ دنـا *** نيرُ وأطْرَافُ الأكُفِّ عَنَمْ

إنما يجبُ حُفْظُ هذا الترتيب فيها لأجل الشِّعر، فأمّا أن تكون هذه الجمل متداخلةً كتداخل الجمل في الآية، وواجباً فيها أن يكون لها نَسقٌ مخصوص كالنسق في الأشياء إذا رُتِّبت ترتيباً مخصوصاً كان لمجموعها صُورةٌ خاصّةٌ مقرَّرة فلا‏.‏ وقد يجيءُ الشيء من هذا القَبِيل يُتوهَّم فيه أن إحدى الجملتين والجمل تنفرد وتُستعمَل بنفسها تشبيهاً وتمثيلاً، ثم لا يكون كذلك عند حُسن التأمل، مثال ذلك قوله‏:‏

كما أَبْرقَتْ قوماً عِطَاشَاً غمامةٌ *** فلما رَجَوها أقْشَعَتْ وتَجَلَّـتِ

هذا مَثَلٌ في أن يظهر للمضطرِّ إلى الشيء، الشديدِ الحاجةِ إليه، أمارةُ وجوده، ثم يفوته ويبقى لذلك بحسرة وزيادة تَرَح، وقد يمكن أن يقال‏:‏ إن قولك‏:‏ أبرقت قوماً عطاشاً غمامة، تشبيهٌ مستقلٌّ بنفسه، لا حاجة به إلى ما بعده من تمام البيت في إفادة المقصود الذي هو ظهور أمرٍ مُطمع لمن هو شديد الحاجة، إلاّ أنه وإن كان كذلك، فإن حقَّنا أن ننظر في مغزى المتكلم في تشبيهه، ونحن نعلم أن المغزى أن يصلَ ابتداءً مُطمعاً بانتهاءٍ مُؤْيس، وذلك يقتضي وُقوفَ الجملة الأَوَّلة على ما بعدها من تمام البيت، ووِزانُ هذا أن الشرط والجزاء جملتان، ولكنا نقول‏:‏ إنّ حكمَهما حكمُ جملة واحدة، من حيث دخل في الكلام معنًى يربط إحداهما بالأخرى، حتى صارت الجملة لذلك بمنزلة الاسم المفردِ في امتناع أن تحصل به الفائدة، فلو قلت‏:‏ إن تأتني وسكتَّ، لم تفدْ كما لا تفيد إذا قلت‏:‏ زيد وسكتَّ، فلم تذكر اسماً آخر ولا فعلاً، ولا كان منويّاً في النفس معلوماً من دليل الحال، ثم إن الأمرَ، وإن كان كذلك، فقد يجوز أن تُخرج الكلام عن الجزاء فتقول‏:‏ تأتيني، فتعود الجملة على الإفادة، لإغنائك لها عن أن ترتبط بأخرى، وإزالتك المعنى الذي أوجب فَقْرَها إلى صاحبة لها، إلا أن الغرض الأوّل يبطُل والمعنى يتبدَّل، فكذلك الاقتصار على الجملة التي هي‏:‏ أبرقت قوماً عطاشاً غمامةٌ، يخرج عن غَرَض الشاعر، فإن قلتَ‏:‏ فهذا يَلْزَمُك في قولك‏:‏ هو يصفو ويكدر، وذلك أن الاقتصار على أحد الأمرين يُبطل غرضَ القائل، وقَصْدَهُ أن يصف الرجل بأنه يجمع الصفتين، وأن الصفاء لا يدوم، فالجواب أن بين الموضعين فرقاً، وإن كان يغمُضُ قليلاً، وهو أن الغرض في البيت أن يُثبت ابتداءً مطمعاً مُؤْنِساً أدَّى إلى انتهاء مؤيسٍ مُوحش، وكونُ الشيء ابتداءً لآخرَ هو له انتهاءٌ، معنًى زائد على الجمع بين الأمرين، والوصفِ بأن كلَّ واحدٍ منها يوجد في المقصود، وليس لك في قولك يصفو ويكدر، أكثرُ من الجمع بين الوصفين، ونظيرُ هذا أن تقول هو كالصُّفو بعد الكدر، في حصول معنًى يجِبُ معه رَبْطُ أحد الوصفين بالآخر في الذكر ويتعيَّن به الغَرض، حتى لو قلت‏:‏ يكدُر ثم يصفو، فجئت بثُمَّ التي توجب الثاني مرتَّباً على الأوَّل، وأنّ أحدهما مبتدأ والآخر بعده، صرتَ بالجملة إلى حد ما نحن عليه من الارتباط، ووجوبِ أن يتعلَّق الحكم بمجموعهما، ويُوجَد الشَبه إن شَبَّهتَ ما بينهما، على التشابك والتداخلُ، دون التباين والتزايُل، ومن الواضح في كون الشَّبه معلَّقاً بمجموع الجملتين، حتى لا يقع في الوَهْم تَمَيُّز إحداهما على الأخرى قولهُ‏:‏ بلغني أنك تُقدّم رِجلاً وتؤخّر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمدْ على أيّهما شئت والسَّلام، وذلك أن المقصود من هذا الكلام‏:‏ التردُّدُ بين الأمرين، وترجيحُ الرأي فيهما، ولا يُتصوّر التردُّد والترجيح في الشىء الواحد، فلو جَهَدت وَهْمَك أن تتصور لقولك‏:‏ تقدّم رجلاً معنى وفائدةً ما لم تقل‏:‏ وتؤخّر أخرى، وتَنْوِهِ في قلبك، كلَّفت نفسَك شطَطَاً، وذكر أبو أحمد العسكري أن هذا النحوَ من الكلام يُسمّى‏:‏ المماثلة، وهذه التسمية تُوهم أنه شيءٌ غيرُ المراد بالمَثل والتمثيل وليس الأمر كذلك، كيف وأنت تقول مَثَلُك مَثَلُ مَن يقدم رجلاً ويؤخِّر أخرى? ووِزَانُ هذا أنك تقول زيدٌ الأسدُ، فيكون تشبيهاً على الحقيقة وإن كنت لم تُصرّح بحرف التشبيه ومثله أنك تقول أنت ترقم في الماء، وتضرب في حديد بارد، وتنفخ في غير فَحَم، فلا تذكر ما يدلُّ صريحاً على أنك تشبّه، ولكنك تعلم أن المعنى على قولك أنت كمن يرقم في الماء، وكمن يَضْربُ في حديدٍ بارد، وكمن ينفخ في غير فَحَم، وما أشبه ذلك مما تجيء فيه بمشَّبهٍ به ظاهرٍ تقع هذه الأفعال في صلة اسمه وصفته،  

واعلم أن المَثَل قد يُضرَبُ بجُمَلٍ لا بدَّ فيها من أن يتقدّمها مذكورٌ يكون مشبَّهاً به، ولا يمكن حذفُ المشبَّه به والاقتصار على ذكر المشبَّه، ونقلُ الكلام إليه حتى كأنه صاحبُ الجملة، إلا أنه مشبَّهٌ بمن صفته وحكمه مضمون تلك الجملة بيان هذا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ النَّاسُ كإبلٍ مِئة لا تكادُ تجدُ فيها راحلةً، لا بدّ فيه من المحافظة على ذكر المشبَّه به الذي هو الإبل، فلو قلت‏:‏ الناس لا تجد فيهم راحلة ولا تجد في الناس راحلة، كان ظاهرَ التعسُّف، وها هنا ما هو أشدُّ اقتضاءً للمحافظة على ذكر ما تُعَلَّق الجملة به وتُسنَد إليه، وذلك مثلُ قوله عزّ وجل‏:‏ ‏{‏إنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كََمَاءٍ أنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏42، لو أردت أن تحذف الماء الذي هو المشبَّه به، وتنقل الكلام إلى المشبَّه الذي هو الحياة، أردتَ ما لا تحْصُل منه على كلام يُعقَل، لأن الأفعال المذكورة المحدَّثَ بها عن الماء، لا يصحّ إجراؤها على الحياة فاحفظ هذا الأصل فإنك تحتاج إليه، وخصوصاً في الاستعارة، على ما يجيء القول فيه إن شاء اللّه تعالى، والجملة إذا جاءت بعد المشبَّهِ به، لم تخلُ من ثلاثة أوجه أحدها أن يكون المشبَّه به معبَّراً عنه بلفظ موصولٍ، وتكون الجملة صِلة، كقولك أنت الذي من شأنه كَيْتَ وكيت، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَّمَا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏71، والثاني أن يكون المشبَّه به نكرةً تقع الجملة صفةً له، كقولنا أنت كرجل من أمره كذا وكذا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ النَّاسُ كإبِلٍ مِئةٍ لا تجد فيها رَاحلة، وأشباه ذلك، والثالثُ أن تجيء مبتدأةً، وذلك إذا كان المشبَّه به معرفةً، ولم يكن هناك الذي، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏14‏.‏

فصل في مواقع التمثيل وتأثيره

واعلم أنّ مما اتفق العقلاءُ عليه، أن التمثيل إذا جاءَ في أعقاب المعاني، وبَرَزَتْ هي باختصار في مَعرِضه، ونُقِلت عن صُوَرها الأصلية إلى صورته، كساها أُبَّهةً، وكَسَبها مَنْقَبةً، ورفع من أقدارها، وشَبَّ من نارها، وضاعف قُواها في تحريك النُّفوس لها، ودعا القُلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابةً وكلَفاً، وقَسَر الطِّباع على أن تُعطيها محبّة وشَغَفاً، فإن كان مدحاً، كان أبْهَى وأفخم، وأنبلَ في النفوسَ وأعظم، وأهزَّ للعِطْف، وأسْرع للإلف، وأجلب للفَرح، وأغلب على المُمْتَدَح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى له بغُرِّ المواهب المنائح، وأسْيَر على الألسن وأذكرَ، وأولى بأن تَعْلَقه القلوب وأجدر، وإن كان ذمّاً، كان مسُّهُ أوجعَ، ومِيسَمُه ألذع، ووقعُه أشده، وَحدُّه أحَدّ، وإن كان حِجاباً، كان بُرهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبَيَانه أبْهر، وإن كان افتخاراً، كان شَأْوُه أمدّ، وشَرَفه أجَدّ، ولسانه أَلَدّ، وإن كان اعتذاراً، كان إلى القَبُول أقرب، وللقلوب أخْلَب، وللسَّخائم أسلّ، ولغَرْب الغَضَبْ أفلَّ، وفي عُقَد العُقود أَنْفَث، وعلى حُسن الرجوع أَبْعث، وإن كان وعظاً، كان أشْفَى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزَّجر، وأجدر بأن يُجلِّيَ الغَيَاية، ويُبصِّر الغاية، ويُبرئ العليل، ويَشْفِي الغليل، وهكذا الحُكْم إذا استقريتَ فنُونَ القول وضروبَهُ، وتتبّعت أبوابَهُ وشُعوبه، وإن أردت أن تعرف ذلك وإن كان تِقِلّ الحاجة فيه إلى التعريف، ويُستغنَى في الوقوف عليه عن التوقيف فانظر إلى نحو قول البحتري‏:‏

دانِ على أيدي العُفاةِ وشَاسِـعٌ *** عن كل نِدٍّ في النَّدَى وَضَرِيبِ

كالبدرِ أفرط في العلوِّ وضَوْءُه *** لِلْعُصْبة السَّارينَ جِدُّ قَـريبِ

وفكِّر في حالك وحالِ المعنى معك، وأنت في البيت الأول لم تَنْتَهِ إلى الثاني ولم تتدبّر نُصرته إيّاه، وتمثيله له فيما يُملي على الإنسان عيناه، ويؤَدِّي إليه ناظراه، ثم قِسْهُما على الحال وقد وقفتَ عليه، وتأمّلتَ طَرَفَيْه، فإنك تعلم بُعْد ما بين حالتيك، وشدَّة تَفَاوتهما في تمكُّن المعنى لديك، وتحبُّبِه إليك، ونُبْلِه في نفسك، وتوفيرِه لأُنْسِك، وتحكُم لي بالصدق فيما قلت، والحقِّ فيما ادَّعيتُ وكذلك فتعهَّدِ الفرقَ بين أن تقول‏:‏ فلان يكُدُّ نفسه في قراءَة الكتب ولا يفهم منها شيئاً وتسكت، وبين أن تتلوا الآية، وتُنشد نحو قول الشاعر‏:‏

زَوَامِلُ للأَشْعارِ لاَ عِلْمَ عندهُـمْ *** بِجَيِّدها إلاّ كَعِـلْـمِ الأَبَـاعِـرِ

لَعَمْرُك مَا يَدْرى البَعِيرُ إذا غَدَا *** بأَوْسَاقه وراحَ مَا فِي الغَرائِر

والفصل بين أن تقول أرى قوماً لهم بَهاء ومنظر، وليس هناك مَخْبَرٌ، بل في الأخلاق دِقّة، وفي الكرم ضَعْفٌ وقلّة وتقطع الكلام، وبين أن تُتبعه نحوَ قول الحكيم أما البيتُ فحسنٌ، وأما السَّاكن فرديء، وقولَ ابن لَنكك‏:‏

في شجَر السَرْوِ منهمُ مَثَلٌ *** لَهُ رَواءٌ ومَا لَهُ ثَـمَـرُ

وقول ابن الرُّومي‏:‏

فغَدا كالخِلاف يُورِقُ للعَي *** ن ويَأْبَى الإثمارَ كُلَّ الإباءِ

وقول الآخر‏:‏

فَإنْ طُرَّةٌ رَاقَتْكَ فانظُرْ فرُبَّمَـا *** أمَرَّ مَذاقُ العُودِ والعُودُ أَخْضَرُ

وانظر إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يُورق شجَرهُ ويُثمر، ويفترُّ ثغرُه ويبسِم، وكيف تَشْتار الأرْيَ من مذاقته، كما ترى الحسن في شارته، وأنشِدْ قولَ ابن لنكك‏:‏

إذَا أخو الحُسْنِ أَضْحَى فِعْلُهُ سَمِجاً *** رأيتَ صُورتَهُ من أقبحِ الصُـوَر

وتبيَّن المعنى واعرف مقدراه، ثم أنشِد البيت بعده‏:‏

وهَبْكَ كالشَّمْسِ في حُسنِ ألم تَرَنَا *** نَفِرُّ منها إذا مَالَتْ إلى الضَّرَرِ

وانظر كيف يزيد شرفه عندك، وهكذا فتأمّل بيت أبي تمام‏:‏

وإذا أراد اللّهُ نَشْرَ فَضِـيلةٍ *** طُوِيَتْ أتاحَ لها لِسانَ حَسُودِ

مقطوعاً عن البيت الذي يليه، والتَّمثيل الذي يؤدّيه، واستقص في تعرُّف قيمته، على وضوح معناه وحُسن بِزّته، ثم أتبِعه إياه‏:‏

لَوْلاَ اشتِعَالُ النَّارِ فيمـا جـاورَتْ *** مَا كان يُعرَف طِيبُ عَرْفِ العُودِ

وانظر هل نَشَر المعنى تمام حُلّته، وأظهر المكنون من حُسنه، وزِينته، وعَطَّرك بعَرْف عوده، وأراك النضرة في عوده، وطلع عليك من طلع سُعوده، واستكمل فَضْلَه في النفس ونُبْلَه، واستحقّ التقديم كُلّه، إلا بالبيت الأخير، وما فيه من التمثيل والتصوير، وكذلك فرَق في بيت المتنبي‏:‏

ومَنْ يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ *** يَجِدْ مُرّاً به الماءَ الزُّلالاَ

لو كان سلك بالمعنى الظاهر من العبارة كقولك‏:‏ إن الجاهل الفاسد الطبع يتصوّر المعنى بغير صورته، ويُخيَّل إليه في الصواب أنه خطأ، هل كنت تجد هذه الرَوعة، وهل كان يبلغ من وَقْم الجاهل ووَقْذه، وقمعه ورَدْعه والتهجين له والكشف عن نَقْصه، ما بَلغ التمثيلُ في البيت، وينتهي إلى حيث انتهى، وإن أردت اعتبارَ ذلك في الفنّ الذي هو أكرم وأشرف، فقابلْ بين أن تقول‏:‏ إن الذي يعظ ولا يَتَّعظ يُضِرُّ بنفسه من حيث ينفع غيره، وتقتصرَ عليه وبَين أن تذكر المَثَل فيه على ما جاء في الخبر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ مَثَلُ الّذي يعلِّم الخيرَ ولا يَعْمَلُ به، مثلُ السِّراج الذي يضيء للناس ويُحرق نفسه، ويروي‏:‏ مَثَلُ الفتيلة تُضيء للناس وتُحرق نفسها‏.‏ وكذا فوازنْ بين قولك للرجلِ تعِظُه إنك لا تُجْزَى السيئة حسنةً، فلا تَغُرَّ نفسك وتُمسِك، وبين أن تقول في أثره إنكَ لا تجني من الشَّوك العِنَب، وإنما تحصُدُ ما تزرع، وأشباه ذلك‏.‏ وكذا بين أن تقول لا تُكلِّمِ الجاهل بما لا يعرفه ونحوه، وبين أن تقول لا تنثُر الدُّرَّ قُدَّام الخنازير ولا تجعلِ الدُّرَّ في أفواه الكلاب، وتُنشد نحو قول الشافعي رحمه اللّه  أأنثُر دُرّاً بين سَارِحَة الغَنَمْ وكذا بين أن تقول‏:‏ الدنيا لا تدوم ولا تبقى، وبين أن تقول‏:‏ هي ظلٌّ زائل، وعارِيَّةٌ تُستردُّ، ووديعة تُسترجَع، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَنَْ في الدنيا ضيفٌ وما في يديه عاريَّة، والضيفُ مرتحِلٌ، والعاريَّة مُؤَدّاة، وتُنشد قولَ لبيد‏:‏

ومَا المَال والأهْلُونَ إلاّ وَدِيعةٌ *** وَلاَ بُدَّ يوماً أن تُرَدَّ الـوَدَائعُ

وقول الآخر‏:‏

إنَّما نِعمةُ قـومٍ مُـتْـعةٌ *** وحَياةُ المَرءِ ثَوبٌ مُسْتَعار

فهذه جملة من القول تُخبر عن صِيَغ التمثيل وتُخبر عن حال المعنى معه، فأما القولُ في العِلّة والسبب، لِمَ كان للتمثيل هذا التأثير؛ وبيانِ جهته ومأتاه، وما الذي أوجبه واقتضاه، فغيرها، وإذا بحثنا عن ذلك، وجدنا له أسباباً وعِلَلاً، كلٌّ منها يقتضي أن يَفخُمَ المعنى بالتمثيل، وينبُلَ ويَشرُفَ ويكمل، فأَوَّلُ ذلك وأظهره، أنّ أُنْس النفوس موقوفٌ على أن تُخرجها من خفيٍّ إلى جليٍّ، وتأتيها بصريح بعد مكنىٍّ، وأن تردَّها في الشيء تُعلِّمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتُها به في المعرفة أحكم نحو أن تنقُلها عن العقل إلى الإحساس وعما يُعلَم بالفكر إلى ما يُعلم بالاضطرار والطبع، لأن العلم المستفادَ من طرق الحواسِّ والمركوز فيها من جهة الطبع وعلى حدِّ الضرورة، يفضلُ المستفاد من جهة النَّظر والفكر في القوة والاستحكام، وبلوغ الثقة فيه غاية التمام، كما قالوا‏:‏ ليس الخَبرُ كالمُعاينة، ولا الظنُّ كاليقين، فلهذا يحصل بها العِلم هذا الأُنْسُ أعني الأُنس من جهة الاستحكام والقوة، وضربٌ آخر من الأُنس، وهو ما يوجبه تقدُّمُ الإلْف، كما قيل‏:‏

مَا الحُبُّ إلاّ للحبيب الأوَّلِ

ومعلومٌ أن العلم الأوّل أتى النفسَ أوّلاً من طريق الحواسّ والطباع، ثم من جهة النظر والرَّويَّة، فهو إذَنْ أمسُّ بها رَحِماً، وأقوى لديها ذِمَماً، وأقدم لها صُحْبة، وآكدُ عندها حُرمة وإذْ نقلتَها في الشيء بمَثَله عن المُدرَك بالعقل المحض وبالفكرة في القلب، إلى ما يُدرَك بالحواسّ ويُعلَم بالطَّبع، وعلى حدّ الضرورة، فأنت إذن مع الشاعر وغير الشاعر إذا وقع المعنى في نفسك غيرَ ممثَّلٍ ثم مَثَّلَه كمن يُخبر عن شيء من وراء حجاب، ثم يكشف عنه الحجاب ويقول‏:‏ ها هو ذا، فأبصِر تجده على ما وصفتُ‏.‏ فإن قلت إن الأُنْس بالمشاهدة بعد الصفة والخبر، إنما يكون لزَوال الرَّيْب والشكّ في الأكثر، أفتقول إن التمثيل إنما أُنِسَ به، لأنه يصحّح المعنى المذكور والصفة السابقة، ويُثبت أن كونَها جائزٌ ووجودَها صحيحٌ غيرُ مستحيل، حتى لا يكون تمثيلٌ إلا كذلك، فالجواب إن المعاني التي يجيء التمثيل في عَقِبها على ضربين غريب بديع يمكن أن يخالَف فيه، ويُدَّعَى امتناعُه واستحالُة وجوده، وذلك نحو قوله‏:‏

فإن تَفُقِ الأنَامَ وأنت منـهـم *** فَإنَّ المِسكَ بعضُ دَمِ الغَزَالِ

وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام وفاتهم إلى حدٍّ بَطَل معه أن يكون بينه وبينهم مشابهةٌ ومقاربةٌ، بل صار كأنه أصلٌ بنفسه وجنسٌ برأسه، وهذا أمرٌ غريب، وهو أن يتناهى بعض أجزاء الجنس في الفضائل الخاصّة به إلى أن يصير كأنه ليس من ذلك الجنس، وبالمدَّعِي له حاجة إلى أن يصحّح دعواه في جواز وجوده على الجملة إلى أن يجيء إلى وجوده في الممدوح، فإذا قال‏:‏ فإن المسك بعض دم الغزال، فقد احتجّ لدعواه، وأبان أن لما ادّعاه أصلاً في الوجود، وبرّأ نفسه من ضَعَة الكذب، وباعَدها من سَفَه المُقدِم على غير بصيرة، والمتوسِّع في الدعوى من غير بيّنة، وذلك أن المسك قد خرج عن صفة الدم وحقيقته، حتى لايُعَدُّ في جنسه، إذ لا يوجد في الدم شيء من أوصافه الشريفة الخاصة بوجه من الوجوه، لا ما قلّ ولا ما كثُر، ولا في المسك شيء من الأوصاف التي كان لها الدم دماً البتة‏.‏ والضرب الثاني أن لا يكون المعنى الممثَّل غريباً نادراً يُحتاج في دعوى كونه على الجملة إلى بيّنة وحُجّة وإثبات، نظير ذلك أن تنفيَ عن فعل من الأفعال التي يفعلها الإنسان الفائدة، وتدَّعِيَ أنه لا يحصل منه على طائل، ثم تمثّله في ذلك بالقابض على الماء والرَّاقم فيه، فالذي مثّلتَ ليس بمنكرٍ مستبعَدٍ، إذ لا يُنكَر خطأ الإنسان في فعله وظنّه وأمله وطَلَبه، ألا ترى أن المَغْزَى من قوله‏:‏

فأصبحتُ من لَيْلَى الغداةَ كقابضٍ *** على الماءِ خَانَتْهُ فُروجُ الأصابِعِ

أنَّه قد خاب في ظنّه أن يتمتّع بها ويَسْعَد بوصلها، وليس بمنكر ولا عجيب ولا ممتنع في الوجود، خارج من المعروف المعهود، أن يخيب ظنُّ الإنسان في أشباه هذا من الأمور، حتى يُستشهَدَ على إمكانه، وتُقام البيّنة على صدق المدَّعِي لوِجْدَانه، وإذا ثبت أن المعاني الممثَّلة تكون على هذين الضربين، فإن فائدة التمثيل وسببَ الأُنس في الضرب الأول بَيّنٌ لائح، لأنه يُفيد فيه الصِّحة وينفي الرَّيْب والشكَّ، ويُؤْمِن صاحبه من تكذيب المخالِف، وتهجُّم المنكرِ، وتَهَكُّم المعترض، وموازنتُه بحالة كَشْفِ الحجاب عن الموصوف المُخبَرِ عنه حتى يُرَى ويُبصرَ، ويُعلَم كونهُ على ما أثبتته الصِّفة عليه موازنةٌ ظاهرة صحيحة، وأمّا الضرب الثاني فإن التمثيل وإن كان لا يفيد فيه هذا الضرب من الفائدة، فهو يفيد أمراً آخَرَ يجري مجراه، وذلك أن الوصفَ كما يحتاج إلى إقامة الحجة على صحة وجوده في نفسه، وزيادةِ التثبيتِ والتقرير في ذاته وأصله، فقد يحتاج إلى بيانِ المقدار فيه، ووضعِ قياس من غيره يكشِف عن حَدّه ومبلغِه في القوة والضعفِ والزيادةِ والنقصانِ، وإذا أردت أن تعرفَ ذلك، فانظر أوّلاً إلى التشبيه الصريح الذي ليس بتمثيل، كقياس الشيء على الشيء في اللون مثلاً‏:‏ كحنَك الغراب، تريد أن تُعرِّف مقدار الشدة، لا أن تُعرِّف نفس السواد على الإطلاق، وإذا تقرر هذا الأصل، فإن الأوصاف التي يُرَدُّ السامع فيها بالتمثيل من العقل إلى العيان والحسّ، وهي في أنفسها معروفةٌ مشهورة صحيحة لا تحتاج إلى الدلالة على أنها هل هي ممكنة موجودةٌ أم لا فإنّها وإن غَنِيَتْ من هذه الجهة عن التمثيل بالمشاهدات والمحسوسات، فإنها تفتقر إليه من جهة المقدارِ، لأن مقاديرَها في العقل تختلف وتتفاوت، فقد يقال في الفعل‏:‏ إنه من حال الفائدة عل حدودٍ مختلفة في المبالغة والتوسط، فإذا رجعتَ إلى ما تُبصِرُ وتُحسّ عرفتَ ذلك بحقيقته، وكما يوزن بالقسطاس، فالشاعر لمّا قال‏:‏ كقابض على الماء خانته فروج الأصابع؛ أراك رؤيةً لا تشكُّ معها ولا ترتاب أنه بلغ في خَيبة ظنّه وَبَوار سَعْيه إلى أقصى المبالغ، وانتهى فيه إلى أبعد الغايات، حتى لم يَحْظَ لا بما قلَّ ولا ما كثر، فهذا هو الجواب، ونحن بنوع من التسهُّل والتسامح، نقع على أن الأُنس الحاصل بانتقالك في الشىء عن الصفة والخبر إلى العيان ورؤية البصر، ليس له سببٌ سوى زَوَال الشكّ والرَّيْب، فأما إذا رجعنا إلى التحقيق فإنَّا نعلم أن المشاهدة تُؤثِّر في النفوس مع العلم بصدق الخبر، كما أخبر اللّه تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله‏:‏ قَالَ بَلَى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 62، والشواهد في ذلك كثيرة، والأمر فيه ظاهرٌ، ولولا أن الأمر كذلك، لما كان لنحو قول أبي تمام‏:‏  

وطُولُ مُقَامِ الَمَرْءِ في الحيِّ مُخْلِقٌ *** لِدِيبَاجتَيْهِ فاغْـتَـرِبْ تـتـجـدَّدِ

فإنِّي رَأَيتُ الشَّمْسَ زِيدَتْ محـبّةً *** إلى النّاس أنْ لَيْسَتْ عليهم بسَرْمَدِ

معنى، وذلك أنَّ هذا التجدُّد لا معنى له، إذا كانت الرؤية لا تفيد أُنْساً من حيث هي رؤية، وكان الأنس لنَفْيها الشَّكَّ والرَّيب، ولوقوع العلم بأمر زائدٍ لم يُعْلَمْ من قبل، وإذا كان الأمر كذلك، فأنت إذا قلت للرجل أنت مُضيعٌ للحَزْم في سعيك، ومخطئٌ وجهَ الرشاد، وطالبٌ لما لا تناله، إذا كان الطَّلب على هذه الصفة ومن هذه الجهة، ثم عقّبْتَهُ بقولك وهل يحصل في كفِّ القابض على الماء شيء مما يقبض عليه?، فلو تركنا حديث تعريف المقدارِ في الشدة والمبالغة ونَفْي الفائدة من أصلها جانباً بقي لنا ما تَقْتَضيه الرُّؤية للموصوف على ما وُصف عليه من الحالة المتجدِّدة، مع العلم بصدق الصفة يُبيّن ذلك، أنه لو كان الرجل مثلاً على طرفِ نَهَرٍ في وقتِ مخاطبةِ صاحبهِ وإخباره له بأنه لا يحصل من سعيه على شيء، فأدْخل يده في الماء وقال‏:‏ انظر هل حَصَل في كفيّ من الماء شيء? فكذلك أنت في أمرك، كان لذلك ضرب من التأثير زائد على القول والنطق بذلك دون الفعل، ولو أن رجلاً أراد أن يضرب لك مثلاً في تنافي الشيئين فقال‏:‏ هذا وذاك هَلْ يجتمعان?، وأشار إلى ماء ونارٍ حاضرَين، وجدتَ لتمثيله من التأثير ما لا تجده إذا أخبرك بالقول فقال‏:‏ هل يجتمع الماءُ والنار?، وذلك الذي تفعل المشاهدةُ من التحريك للنفس، والذي يجب بها من تمكُّن المعنى في القلب إذا كان مستفادهُ من العيان، ومتصرَّفهُ حيث تتصرَّف العينان وإلاّ فلا حاجة بنا في معرفة أن الماء والنار لا يجتمعان إلى ما يؤكده من رجوع إلى مشاهدة واستيثاق تَجْربة، وممّا يدلُّك على أن التمثيل بالمشاهدة يزيدك أُنْساً، وإن لم يكن بك حاجةٌ إلى تصحيح المعنى، وبيان لمقدار المبالغة فيه، أنك قد تعبّر عن المعنى بالعبارة التي تؤدِّيه، وتبالغ وتجتهد حتى لا تدع في النفوس مَنْزَعاً، نحو أن تقولَ وأنت تصفُ اليوم بالطول‏:‏ يومٌ كأطْول ما يُتوهَّم وكأنّه لا آخرَ له، وما شاكل ذلك من نحو قوله‏:‏

في لَيْلِ صُولٍ تَنَاهَى العَرْضُ والطُّولُ *** كأنَّمَا ليلُـهُ بـالـلَّـيْل مَـوْصُـولُ

فلا تجد له من الأُنس ما تجده لقوله‏:‏

ويَومٍ كَظِلِّ الرُّمْح قَصَّر طُولَهُ

على أن عبارتك الأولى أشدُّ وأقوى في المبالغة من هذا فظِلّ الرُّمح على كل حال متناهٍ تُدرك العينُ نهايته، وأنت قد أخبرت عن اليوم بأنه كأنه لا آخرَ له، وكذلك تقول‏:‏ يومٌ كأقصر ما يُتصوّر وكأنَّه ساعةٌ وكَلَمْحِ البَصَرِ وكلا ولاَ، فتجد هذا مع كونه تمثيلاً، لا يُؤْنسك إيناسَ قولهم‏:‏ أيامٌ كأباهيم القَطَا، وقول ابن المعتزّ‏:‏

بُدِّلتُ من ليلٍ كظِلِّ حصـاةِ *** لَيْلاً كَظلِّ الرُمح غيرَ مُوَاتِ

وقول آخر‏:‏

ظَلِلْنَا عند بابِ أبي نُعَيْمِ *** بيومٍ مِثْلِ سَالِفةِ الذُّبابِ

وكذا تقول‏:‏ فلانٌ إذا همَّ بالشيء لم يُزل ذاك عن ذكره وقلبه، وقَصَرَ خواطره على إمضاء عزمه، ولم يشغَله شيء عنه، فتحتاط للمعنى بأبلغ ما يمكن، ثم لا ترى في نفسك له هِزَّة، ولا تُصادف لما تسمع أرْيحيّةً، وإنما تسمَعُ حديثاً سَاذجاً وخبراً غُفْلاً، حتى إذا قلت‏:‏

إذا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنيه عَزْمَهُ

امتلأت نفسك سروراً وأدركتك طرْبَة كما يقول القاضي أبو الحسن لا تملك دفعها عنك، ولا تَقُلْ إن ذلك لمكان الإيجاز، فإنه وإن كان يوجب شيئاً منه، فليس الأصْلَ له، بل لأنْ أراك العزمَ واقعا ًبين العينين، وفَتَحَ إلى مكان المعقول من قلبك باباً من العين، وها هنا إذا تأمّلنا مذهبٌ آخر في بيان السبَب المُوجِب لذلك، هو ألطفُ مأخذاً، وأمكنُ في التحقيق وأولى بأن يُحيط بأطراف الباب، وهو أنَّ لتصوير الشبه من الشيء في غير جنسه وشكله، والتقاط ذلك له من غير مَحِلّته، واجتلابه إليه من الشِّقِّ البعيد، باباً آخر من الظَّرف واللُّطف، ومذهباً من مذاهب الإحسان لا يخفى موضعه من العقل، وأُحْضِرُ شاهداً لك على هذا‏:‏ أن تنظر إلى تشبيه المشاهدات بعضها ببعض، فإن التشبيهات سواءٌ كانت عامّية مشتركَة، أم خاصّية مقصورةً على قائلٍ دون قائِل تراها لا يقع بها اعتدادٌ، ولا يكون لها موقع من السامعين، ولا تهُزُّ ولا تُحرِّك حتى يكون الشبه مُقَرَّراً بين شيئين مختلفين في الجنس، فتشبيه العين بالنَّرجِس، عامّيٌّ مشترَكٌ معروف في أجيال الناس، جارٍ في جميع العادات، وأنت ترى بُعدَ ما بين العينين وبينه من حيث الجنس وتشبيهُ الثريّا بما شُبّهَت به من عُنقود الكرم المنوِّر، واللجام المفضَّض، والوِشاح المفصَّل، وأشباه ذلك، خاصّيٌّ، والتبايُن بين المشبَّه والمشبَّه به في الجنس على ما لا يَخْفَى، وهكذا إذا استقريت التشبيهات، وجدتَ التباعدُ بين الشيئين كلما كان أشدَّ، كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوسُ لها أطرب، وكان مكانُها إلى أن تُحِدث الأريحيّة أقرب، وذلك أن موضعَ الاستحسان، ومكانَ الاستظراف، والمُثيرَ للدفين من الارتياح، والمتألِّفَ للنافر من المَسرة، والمؤلِّفَ لأطراف البَهْجة أنك ترى بها الشيئين مِثْلَيْن متباينين، ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض، وفي خِلقة الإنسان وخِلال الروض، وهكذا، طرائفَ تنثالُ عليك إذا فصّلتَ هذه الجملة، وتتبّعت هذه اللَّحمة، ولذلك تجد تشبيهَ البَنَفْسَج في قوله‏:‏

ولازَوَرْدِيّةٌ تزهُو بزُرقـتـهـا *** بين الرّياض على حُمْرِ اليواقيت

كأنّها فوق قاماتٍ ضَعُفنَ بـهـا *** أوائلُ النار في أطراف كبريت

أغربَ وأعجبَ وأحقَّ بالوَلُوع وأجدرَ من تشبيه النرجس‏:‏ بمداهن دُرّ حشوهن عقيق، لأنه أراك شبهاً لنباتِ غَضٍّ يَرِفُّ، وأوراقٍ رطبةٍ ترى الماءَ منها يشِفُّ، بلهَب نارٍ في جسمٍ مُسْتَوْلٍ عليه اليبسُ، وبَادٍ فيه الكَلَف‏.‏ ومَبْنَى الطباع وموضوعُ الجِبِلَّة، على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يُعْهَد ظهوره منه، وخرج من موضعٍ ليس بمعدِنٍ له، كانت صَبَابةُ النفوسِ به أكثر، وكان بالشَّغَف منها أجدر، فسواءٌ في إثارة التعجُّب، وإخراجك إلى روعة المستغربِ، وُجودُك الشيءَ من مكان ليس من أمكنته، ووجودُ شيءٍ لم يُوجَد ولم يُعرَف من أصله في ذاته وصفته، ولو أنه شَبَّه البنفسج ببعض النبات، وصادف له شبهاً في شيء من المتلوّنات، لم تجد له هذه الغرابة، ولم ينل من الحسن هذا الحظ، وإذا ثبت هذا الأصل، وهو أنَّ تصويرَ الشَّبه بين المختلفين في الجنس، مما يحرِّك قُوَى الاستحسان، ويُثير الكامن من الاستظراف، فإن التمثيل أخَصُّ شيء بهذا الشأن، وأسبقُ جارٍ في هذا الرهان، وهذا الصَّنيع صناعته التي هو الإمام فيها، والبادئ لها والهادي إلى كيفيتها، وأمرُه في ذلك أنك إذا قصدت ذكر ظرائفه، وعَدَّ محاسِنه في هذا المعنى، والبِدَعِ التي يخترعها بحِذْقِه، والتأليفاتِ التي يصل إليها برفقِه، ازدحمتْ عليك، وغمرتْ جانبيك، فلم تدرِ أيَّها تذكر، ولا عن أيِّها تعبِّر، كما قال‏:‏

إذا أتاها طالبٌ يَسْتَامُهـا *** تَكاثرتْ في عينه كِرَامُها

وهل تشكُّ في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر لك بُعْدَ ما بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المُشئِمِ والمُعْرِق، وهو يُرِيكَ للمعاني الممثَّلة بالأوهام شَبَهاً في الأشخاص الماثلة، والأشباح القائمة، ويُنطق لك الأخرس، ويُعطيك البيان من الأعجم، ويُريك الحياةَ في الجماد، ويريك التئامَ عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماءِ والنارِ مجتمعين، كما يقال في الممدوحِ هو حياة لأوليائه، موت لأعدائه، ويجعل الشيء من جهةٍ ماءً، ومن أخرى ناراً، كما يقال‏:‏

أنا نارٌ في مُرْتَقَى نَظَرِ الحا *** سِدِ، ماءٌ جارٍ مع الإخوان

وكما يجعل الشيء حُلواً مُرّاً، وصاباً عسلاً وقبيحاً حسَنَاً، كما قال‏:‏

حَسَنٌ في وجوه أعدائه أَقْ *** بحُ من ضَيْفه رأتْه السوامُ

ويجعل الشيء أسود أبيضَ في حال، كنحو قوله‏:‏

له منظَرٌ في العين أبيضُ ناصعٌ *** ولكنّه في القلب أسودُ أسفـعُ

ويجعل الشيء كالمقلوب إلى حقيقة ضدّه، كما قال‏:‏

غُرَّةٌ بُهْمَةٌ ألا إنما كُنْ *** تُ أغَرَّ أيَّام كنتُ بَهِيمَا

ويجعل الشيء قريباً بعيداً معاً، كقوله‏:‏ دانٍ على أيدي العُفاةِ وشَاسِعٌ وحاضراً وغائباً، كما قال‏:‏

أيا غائباً حاضراً في الفؤادِ *** سَلامٌ على الحَاضرِ الغائبِ

ومشرّقاً مغرّباً، كقوله‏:‏

لَهُ إليكم نفسٌ مُـشـرِّقةٌ *** أن غابَ عنكم مُغَرِّباً بَدَنُهْ

وسائراً مقيماً، كما يجيء في وصف الشعر الحسن الذي يتداوله الرواة وتتهاداه الألسن، كما قال القاضي أبو الحسن‏:‏

وجوّابةِ الأُفْقِ موقـوفةٍ *** تسيرُ ولَمْ تَبرحِ الحَضْرَةْ

وهل يخفى تقريبه المتباعدين، وتوقيفه بين المختلفين، وأنت تجد إصابة الرجل في الحجّة، وحُسن تخليصه للكلام، وقد مُثِّلت تارةً بالهناء ومعالجة الإبل الجَرْبَى به، وأُخرَى بحزِّ القصّاب اللحم وإعماله السكّين في تقطيعه وتفريقه في قولهم يَضَع الهِنَاء مَوَاضِع النُقْبِ ويصيب الحزَّ وويطبِّق المَفْصِل، فانظر هل ترى مزيداً في التناكر والتنافر على ما بين طِلاَء القطران، وجنس القول والبيان ثم كرِّرِ النظر وتأمَّلْ كيف حصل الائتلاف، وكيف جاء من جمع أحدهما إلى الآخر، ما يأْنَس إليه العقل ويحمَده الطبع? حتى إنّك لربما وجدتَ لهذا المَثَل إذا وردَ عليك في أثناء الفصول، وحين تبيّن الفاضل في البيان من المفضول قبولاً، ولا ما تجدُ عند فَوْحِ المسك ونشْرِ الغَالية، وقد وقع ذكرُ الحزّ والتطبيق منك موقعَ ما ينفى الحزازات عن القلب، ويُزيل أطباقَ الوحشة عن النفس، وتكلُّفُ القول في أن للتمثيل في هذا المعنى الذي لا يُجارَى إليه، والباعَ الذي لا يُطاوَل فيه، كالاحتجاج للضَّرورات، وكفى دليلاً على تصرُفه فيه باليد الصَّنَاع، وإيفائه على غايات الابتداع، أنه يُريك العدمَ وجوداً والوجودَ عدماً، والميّت حيّاً والحيَّ ميّتاً أعني جَعْلَهم الرجلَ إذا بقي له ذكر جميلٌ وثناءٌ حَسَنٌ بعد موته، كأنه لم يمت، وجَعَلَ الذكرِ حياةٌ له، كما قال‏:‏ ذِكْرُ الفتَى عُمْرُه الثَّانِي؛ وحُكْمَهُمْ على الخامِل الساقطِ القدرِ الجاهل الدنيء بالموتِ، وتصييرَهُمْ إياه حين لم يكن ما يؤثَر عنه ويُعْرَف به، كأنه خارجٌ عن الوجود إلى العدم، وكأنه لم يدخل في الوجود، ولطيفةٌ أخرى له في هذا المعنى، هي، إذا نظرتَ، أعجبُ، والتعجُّب بها أحقُّ ومنها أوجب، وذلك جعلُ الموت نفسِه حياةً مستأنفة حتى يقال‏:‏ إنه بالموت استكمل الحياة في قولهم فلان عاش حين مات، يُراد الرجل تحمله الأبيّةُ وكرم النفس والأنَفَة من العار، على أن يسخو بنفسه في الجود والبأس، فيفعل ما فعل كعب بن مامة في الإيثار على نفسه، وما يفعله الشجاع المذكور من القتال دون حَرِيمه، والصبر في مواطن الإباء، والتصميم في قتال الأعداء، حتى يكون له يومٌ لا يزال يُذكَر، وحديثٌ يعاد على مَرِّ الدهور ويُشْهَر، كما قال ابن نباتة‏:‏

بأَبِي وأمّـي كُـلُّ ذِي *** نَفْسٍ تَعافُ الضَّيْمَ مُرَّةْ

تَرْضَى بأن تَرِد الرَّدَى *** فَيُمِيتها ويُعيش ذِكْـرَهْ

وإنه لَيأتيك من الشيء الواحد بأشباهِ عِدة، ويشتقّ من الأصل الواحد أغصاناً في كل غصن ثَمَرٌ على حِدَة، نحو أن الزَّند بإيرائه يُعطيك شَبَه الجواد، والذكيِّ الفَطِنِ، وشَبَه النُجح في الأمور والظفر بالمراد وبإصلادِه شَبَه البخيل لا يعطيك شيئاً، والبليد الذي لا يكون له خاطر يُنتج فائدةً ويُخرج معنًى وشَبَه من يخيب سَعْيُه، ونحو ذلك ويعطيك من القمر الشهرة في الرجل والنباهة والعِزَّ والرفعة، ويعطيك الكمال عن النقصان، والنقصان بعد الكمال، كقولهم هلا نَمَا فعاد بدراً، يراد بلوغ النَجْل الكريم المبلغَ الذي يُشبِه أصلَه من الفضل والعقل وسائر معاني الشرفِ، كما قال أبو تمام‏:‏

لَهَفِي على تلك الشواهد مِنْهُما *** لو أُمْهلَتْ حتى تَصِيرَ شمائلاَ

لَغدا سكونهما حجًى وصِباهما *** كَرَماً وتلك الأريحيّة نـائلاَ

إنّ الهلالَ إذا رأيتَ نُـمُـوَّهُ *** أَيقنتَ أن سيصيرُ بدراً كاملاَ

وعلى هذا المثل بعينه، يُضرَب مثلاً في ارتفاع الرجل في الشرف والعزّ من طبقة إلى أعلى منها، كما قال البحتري‏:‏

شَرَفٌ تزيَّدَ بالعراق إلى الذي *** عهِدُوه بالبَيْضاء وبِبَلَنْجَـرَ

مِثْلَ الهلال بدَا فلم يَبْرَحْ بـه *** صَوْغُ اللَّيالي فيه حتى أقمَرا

ويعطيك شَبَه الإنسان في نَشْئِه ونَمائه إلى أن يبلغ حدَّ التمام، ثم تراجُعِه إذا انقضت مُدَّة الشباب، كما قال‏:‏

المرءُ مِثْلُ هلالٍ حين تُبصرهُ *** يبدو ضئيلاً ضعيفاً ثم يَتَّسِقُ

يَزدادُ حتّى إذا ما تَمَّ أعْقَبـه *** كَرُّ الجديدين نقصاً ثم يَنْمَحِقُ

وكذلك يتفرَّع من حالتي تمامه ونُقصانه فروعٌ لطيفة، فمن غريب ذلك قولُ ابن بابك‏:‏

وأعَرْتَ شَطْرَ المُلك ثَوْبَ كماله *** والبدرُ في شَطْر المَسافَةِ يكمُلُ

قاله في الأستاذ أبي علي، وقد استوزره فخرُ الدولة بعد وفاة الصاحب وأبا العباس الضبيّ وخلع عليهما وقولُ أبي بكر الخوارزمي‏:‏

أراك إذا أيسرتَ خَيَّمتَ عندنـا *** مقيماً وإن أعسرتَ زُرتَ لِمَامَا

فما أنت إلا البدرُ إن قَلَّ ضَوءهُ *** أَغَبَّ وإن زَادَ الضياءُ أقَـامَ

المعنى لطيف، وإن كانت العبارة لم تساعده على الوجه الذي يجب، فإن الإغباب أن يتخلل وقتَي الحضور وقتٌ يخلو منه، وإنما يصلح لأن يراد أن القمر إذا نقص نورُه، لم يُوال الطلوع كل ليلة، بل يظهر في بعض الليالي، ويمتنع من الظهور في بعض، وليس الأمر كذلك، لأنه على نقصانه يطلع كل ليلة حتى يكون السِّرارُ، وقال ابن بابك في نحوه‏:‏

كذا البدرُ يُسْفِـرُ فـي تِـمِّـه *** فإن خاف نَقْص المَحَاقِ انْتَقَبْ

وهكذا يُنظر إلى مقابلته الشَّمسَ واستمداده من نورها، وإلى كون ذلك سببَ زيادته ونقصه وامتلائه من النور والائتلاق، وحصولهِ في المُِحَاق، وتفاوُتِ حاله في ذلك، فتُصاغ منه أمثَالٌ، وتُبَيَّن أشباهٌ ومقاييس، فمن لطيف ذلك قول ابن نباتة‏:‏

قد سَمِعْنا بالعِزِّ من آلِ سـاسـا *** نَ ويُونانَ في العُصور الخوالِي

والملوكِ الأُلَى إذا ضاع ذِكْـرٌ *** وُجِدُوا في سـوائر الأمـثـالِ

مَكْرُماتٌ إذا البليغُ تـعـاطَـى *** وَصْفَها لم يجدْهُ فـي الأقـوال

وإذا نحن لم نُضِفْـه إلـى مـد *** حِكَ كانت نهايةً في الكـمـال

إن جمعنَاهُمَا أضرَّ بها الـجـم *** عُ وضاعت فيه ضَياعَ المُحال

فهو كالشمس بُعْدُها يملأ البَـدْ *** ر وفي قُرْبها ُمحاقُ الهـلالِ

وغير ذلك من أحواله كنحو ما خرج من الشَّبَه من بُعده وارتفاعه، وقُرب ضَوئِه وشُعاعه، في نحو ما مضى من قول البحتري‏:‏ دانٍ على أيدي العفاة البيتين‏.‏ ومن ظهوره بكل مكان، ورؤيته في كل موضع، كقوله‏:‏

كالبدرِ من حيثُ التَفَتَّ رَأَيتَه *** يُهدَي إلى عينيك نوراً ثاقبَ

في أمثال لذلك تكثر، ولم أعرِضْ لما يُشبَّه به من حيث المنظر، وما تُدركه العين، نحو تشبيهِ الشيء بتقويس الهلالِ ودقّته، والوجه بنوره وَبَهْجته، فإنّا في ذكر ما كان تمثيلاً، وكان الشَّبه فيه معنويّاً‏.‏

فصلٌ آخر في التمثيل

وإن كان مِمَّا مَضَى، إلا أن الأسلوب غيره، وهو أن المعنى إذا أتاك ممثَّلاً، في الأكثر ينجلي لك بعد أن يُحْوِجك إلى غير طلبه بالفكرة وتحريك الخاطرِ له والهِمَّة في طلبه، وما كان منه ألطف، كانت امتناعه عليك أكثر، وإباؤه أظهر، واحتجابُه أشدُّ، ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له والاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نَيله أحلَى، وبالمزِيَّة أولى، فكان موقعه من النفس أجلّ وألطف، وكانت به أضَنَّ وأَشْغَف، ولذلك ضُرب المثل لكل ما لَطُف موقعه ببرد الماء على الظمأ، كما قال‏:‏

وهُنَّ يَنْبِذْنَ من قَوْلٍ يُصِبْنَ بِهِمَوَاقِعَ الماءِ مِنْ ذِي الغُلَّةِ الصَّادِي

وأشباه ذلك مما يُنال بعد مكابدة الحاجة إليه، وتقدُّم المطالبة من النفس به، فإن قلت فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمُّد ما يَكْسِب المعنى غمُوضاً، مشرِّفاً له وزائداً في فضله، وهذا خلافُ ما عليه الناس، ألا تراهم قالوا إن خَيْر الكلام ما كان معناه إلى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك، فالجواب إني لم أُرد هذا الحدَّ من الفِكْرِ والتعب، وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في نحو قوله‏:‏

فإن المِسْكَ بعضُ دمِ الغَزَالِ

وقوله‏:‏

ومَا التأنيثُ لاِسْمِ الشمسِ عَيْبٌ *** ولا التذكيرُ فَخْرٌ للـهـلالِ

وقوله‏:‏

رأيتُك في الذين أَرَى مُلُوكاً *** كأنَّك مُسْتَقيمٌ في مُحـالِ

وقول النابغة‏:‏

فإنَّك كاللَّيل الَّذِي هو مُـدْرِكـي *** وَإنْ خِلْتُ أنّ المُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ

وقوله‏:‏

فإنك شمسٌ والملوكُ كواكـبٌ *** إذَا طَلَعتْ لم يَبْدُ منهنّ كَوْكَبُ

وقول البحتري‏:‏

ضَحوكٌ إلى الأبطال وهو يَرُوعهم *** وللسيف حدٌّ حين يَسْطُو وَرَوْنَـقُ

وقول امرئ القيس‏:‏ بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوابد هَيْكَلِ وقوله‏:‏

ثم انصرفتُ وقد أَصَبْتُ ولم أُصَبْ *** جَذَعَ البَصِـيرةِ قَـارِحَ الإقـدامِ

فإنك تعلم على كل حالٍ أن هذا الضرب من المعاني، كالجوهر في الصَدَف لا يبرز لكَ إلاّ أن تشُقَّه عنه، وكالعزيز المُحْتجب لا يُريك وجهه حتى تستأذِن عليه، ثم ما كلُ فكر يهتدي إلى وجهِ الكَشْفِ عمَّا اشتمل عليه، ولا كُلّ خاطر يؤذَن له في الوصول إليه، فما كل أحد يفلح في شقّ الصَدَفة، ويكون في ذلك من أهل المعرفة، كما ليس كلُّ من دنا من أبواب الملوك، فُتحت له وكان‏:‏

مِنَ النَّفَرِ البِيضِ الَّذِينَ إذَا اعتَزَوْاوهابَ رجالٌ حَلْقَةَ البَابِ قَعْقَعُوا

وكما قال‏:‏

تَفَتَّحُ أبوابُ الملوك لِوجهه *** بغير حِجَابٍ دُونَهُ وتَملُّقِ

وأما التعقيد، فإنما كان مذموماً لأجل أن اللفظ لم يرتَّب الترتيبَ الذي بمثله تحصُل الدَّلالة على الغرض، حتى احتاج السامع إلى أن يطلبَ المعنى بالحِيلة، ويسعى إليه من غير الطريق كقوله‏:‏

ولذا اسمُ أغطية العيون جفونُها *** من أنّها عَمَلَ السيوفِ عواملُ

 وإنما ذُمَّ هذا الجنس، لأنه أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله، وكَدَّكَ بسُوء الدَّلالة وأودع لك في قالب غير مستوٍ ولا مُمَلَّس، بل خشِنٍ مُضرّس حتى إذا رُمْتَ إخراجَه منه عَسُر عليك، وإذا خرج خرج مُشوَّه الصورة ناقصَ الحُسن، هذا وإنما يزيدك الطلبُ فرحاً بالمعنى وأُنْساً به وسروراً بالوقوف عليه إذا كان لذلك أهلاً، فأمّا إذا كنتَ معه كالغائص في البحر، يحتمل المشقّة العظيمة، ويخاطر بالروح، ثم يُخرج الخرَزَ، فالأمرُ بالضدّ مما بدأتُ به، ولذلك كان أحقَّ أصناف التعقُّد بالذم ما يُتعبك، ثم لا يُجدي عليك، ويؤرِّقك ثم لا يُورق لك، وما سبيله سبيلُ البخيل الذي يدعوه لؤمٌ في نفسه، وفساد في حسّه، إلى أن لا يرضى بضَعَته في بُخْله، وحِرمان فضله، حتّى يَأْبَى التواضع ولين القول، فيتيه ويشمخ بأنفه، ويسوم المتعرِّض له باباً ثانياً من الاحتمال تناهياً في سُخفه وكالذي لا يُؤيسك من خيره في أول الأمْرِ فتستريحَ إلى اليأس، ولكنه يُطمِعُك ويَسْحَب على المواعيد الكاذبة، حتى إذا طال العناء وكثر الجهد، تكشَّف عن غير طائل، وحصلتَ منه على نَدَمٍ لتَعبك في غير حاصل، وذلك مثل ما تجده لأبي تمام من تعسُّفه في اللفظ، وذهابه به في نحوٍ من التركيب لا يهتَدِي النحو إلى إصلاحه، وإغراب في الترتيب يعمَي الإعرابُ في طريقه، ويَضِلُّ في تعريفه، كقوله‏:‏

ثَانِيه في كَبِد السَّمَاء ولم يكن *** لاثنين ثانٍ إذ هُما فِي الغَارِ

وقوله‏:‏

يَدِي لمن شاءَ رَهْنٌ لَمْ يَذُق جُـرَعـاً *** مِنْ رَاحتَيْكَ دَرَى ما الصَّابُ والعَسلُ

ولو كان الجنس الذي يوصف من المعاني باللطافة ويُعَدّ في وسائط العُقود، لا يُحوِجك إلى الفكر، ولا يحرِّك من حِرصك على طلبه، بمنعِ جانبه وببعض الإدلال عليك وإعطائك الوصل بعد الصدّ، والقرب بعد البعُد، لكان باقلَّي حارٌ وبيتُ معنًى هو عين القلادة وواسطة العقد واحداً، ولَسقط تفاضُلُ السامعين في الفهم والتصوّر والتبيين، وكان كلُّ من روى الشعر عالماً به، وكلُّ من حَفِظه إذا كان يعرف اللغة على الجملة ناقداً في تمييز جيّده من رديئه، وكان قول من قال‏:‏

زَوَامِلُ للأشعارِ لا عِلْمَ عِنْدهُم *** بجيِّدها إلا كَعِلْمِ الأبـاعِـرِ

وكقول ابن الرومي‏:‏

قلتُ لمن قال لي عرضتُ على الأخ *** فَشِ مَا قُـلـتَـه فَـمَـا حَـمِـدهْ

قَصرَّتَ بالشعر حين تَـعـرِضُـهُ *** على مُبينِ العمَـى إذا انـتَـقَـدَهْ

مَا قَـالَ شـعـراً ولا رواهُ فــلا *** ثَعْـلَـبَـهُ كـان لا ولا أَسَـــدَهْ

فإن يَقُل إنّنـي رويتُ فـكـالـدَّف *** ترِ جهلاً بـكـلّ مـا اعـتَـقَـدهْ

وما أشبه ذلك، دعوَى غير مسموعةٍ ولا مؤهَّلةٍ للقبول، فإنما أرادوا بقولهم ما كان معناه إلى قلبك أسبقَ من لفظه إلى سمعك، أن يجتهد المتكلم في ترتيب اللفظ وتهذيبه وصيانته من كل ما أخلّ بالدَّلالة، وعاق دون الإبانة، ولم يريدوا أن خير الكلام ما كان غُفْلاً مِثْلَ ما يتراجعه الصبيانُ ويتكلَّم به العامّة في السوق‏.‏ هذا وليس إذا كان الكلامُ في غاية البيان وعلى أبلغ ما يكون من الوُضوح، أغناك ذاك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفاً، فإن المعانيَ الشريفة اللطيفةَ لا بُدَّ فيها من بناءِ ثانٍ على أوّل، وردِّ تالٍ على سابق، أفَلستَ تحتاج في الوقوف على الغرض من قوله‏:‏ كالبَدْرِ أُفْرطَ فِي العُلُوإلى أن تعرف البيت الأول، فتتصوَّر حقيقة المرادِ منه ووجه المجاز في كونه دانياً شاسعاً، وترقم ذلك في قلبك، ثم تعود إلى ما يعرِضُ البيت الثاني عليك من حَالِ البدر، ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى، وتردّ البَصَرَ من هذه إلى تلك، وتنظر إليه كيف شَرَطَ في العلوِّ والإفراطَ، ليشاكل قوله شاسع، لأن الشُّسُوع هو الشديد البُعد، ثم قَابَله بما لا يشاكله من مراعاة التناهي في القرب فقال جِدُّ قريب فهذا هو الذي أردتُ بالحاجة إلى الفكر، وبأنَّ المعنى لا يحصُل لك إلا بعد انبعاثٍ منك في طلبه، واجتهادٍ في نيله، هذا وإن توقفت في حاجتك أيها السامع للمعنى إلى الفكر في تحصيله، فهل تشكّ في أن الشاعر الذي أدّاه إليك، ونشر بَزَّه لديك، قد تحمّل فيه المشقّة الشديدة، وقطع إليه الشُّقة البعيدة، وأنه لم يصل إلى دُرِّه حتى غاص، ولم ينل المطلوب حتى كابدَ منه الامتناع والاعتياص؛ ومعلومٌ أن الشيء إذا عُلم أنه لم يُنَل في أصله إلا بعد التَّعب، ولم يُدرَك إلا باحتمال النَّصَب، كان للعلم بذلك من أمره من الدعاء إلى تعظيمه، وأخْذِ الناس بتفخيمه، ما يكونَ لمباشرة الجهد فيه، وملاقاةِ الكرب دونه، وإذا عثرتَ بالهُوَيْنَا على كنزٍ من الذهب، لم تُخرجك سُهولةُ وجوده إلى أن تَنْسَى جملةً أنه الذي كدَّ الطالب، وحمّل المتاعب، حتى إن لم تكُنْ فيك طبيعةٌ من الجُود تتحكَّم عليك، ومحبّة للثناء تستخرج النفيس من يديك كان من أقوى حجج الضَّنّ الذي يخامر الإنسان أن تقول‏:‏ إن لم يكدَّني فقد كدَّ غيري، كما يقول الوارث للمال المجموع عفواً إذا لِيمَ على بخله به، وفرطِ شُحّه عليه‏:‏ إن لم يكنْ كَسْبِي وكدَّي، فهو كَسْب أبي وجدي، ولئن لم ألْقَ فيه عناءً، لقد عانَى سَلَفِي فيه الشدائد، ولقُوا في جَمْعِهِ الأمَّرين، أفأضيِّع ما ثَمَّرُوه، وأُفَرِّق ما جمعوه، وأكون كالهادم لما أُنفِقَتِ الأْعمارُ في بنائه، والمُبيد لما قُصِرت الهمَمُ على إنمائه?، وإنك لا تكاد تجد شاعراً يعطيك في المعاني الدقيقة من التسهيل والتقريب، وردّ البعيد إلى المألوف القريب، ما يُعْطي البحتريُّ، ويبلغ في هذا الباب مبلغه، فإنه لَيروض لك المُهْرَ الأرِنَ رياضةَ الماهر، حتى يُعْنِق من تحتك إعناقَ القارِح المذلَّل، وينزِعَ من شِمَاس الصعب الجامح، حتى يلين لك لِينَ المنقاد الطَّيع، ثمَّ لا يمكن ادعاءُ أنَّ جميع شعره في قلّة الحاجة إلى الفكر، والغِنَى عن فضل النظر، كقوله‏:‏

فُؤادِي مِنكَ مـلآنُ *** وسِرّي فِيك إعلانُ

وقوله‏:‏

عَن أيِّ ثَغْرٍ تَبتَسِمْ

وهل ثَقُل على المتوكل قصائدُه الجيادُ حتى قلَّ نشاطه لها واعتناؤه بها، إلا لأنَّه لم يفهم معانيها كما فهم معانيَ النوع النازل الذي انْحَطَّ له إليه? أتُراك تستجيز أن تقول إن قولهمُنَى النَّفْسِ في أسماءَ لَوْ يَسْتَطِيعُه من جنس المعقَّد الذي لا يُحمَد، وإن هذه الضَّعيفة الأسْر، الواصلة إلى القلوب من غير فكر، أوْلى بالحمد، وأحقّ بالفضل‏.‏ هذا والمعقَّد من الشعر والكلام لم يُذَمَّ لأنه مما تقعُ حاجةٌ فيه إلى الفكر على الجملة، بل لأنّ صاحبه يُعْثِرُ فِكرَك في متصرَّفه، ويُشيكُ طريقك إلى المعنى، ويُوعِّر مذهبَك نحوه، بل رُبّما قَسَّم فكرَك، وشعَّب ظَنَّك، حتى لا تدري من أي تتوصّل وكيف تطلب‏.‏ وأمّا الملخَّص فيفتح لفكرتك الطريقَ لمستوى ويمهَّده، وإن كان فيه تعاطُفٌ أقام عليه المنار، وأوقد فيه الأنوار، حتى تسلكُه سلوكَ المتبين لوِجهته، وتقطعَهُ قَطْعَ الواثق بالنُّجْح في طِيِّته، فترِدَ الشريعة زرقاءَ، والروْضة غنّاءَ، وصادفت نهجاً مستقيماً، مذهباً قويماً، وطريقةً تنقاد، وتبيّنت لها الغاية فيما ترتاد? فقد قيل‏:‏ قُرَّةُ العين، وسَعَة الصدر، ورَوْحُ القلب، وطِيب النفس، من أربعة أمور الاستبانة للحجّة، والأُنس بالأحبّة، والثَّقة بالعُدّة، والمعاينة للغاية، وقال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكر والنظر من الفضيلة‏:‏ وأين تقع لذّةُ البهيمة بالعَلُوفة، ولذّة السَّبُع بلَطْع الدَّم وأكلِ اللحم، من سرور الظفر بالأعداء، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه، وبَعْدُ، فإذا مُدّت الحَلَباتُ لجري الجياد، ونُصِبت الأهداف لتعرف فضل الرُّماة في الإبعاد والسّدَاد، فرهانُ العقول التي تستَبق، ونِضالها الذي تمتحِن قواها في تعاطيه، هو الفِكر والروّيةُ والقياس والاستنباط، ولن يبعُد المَدَى في ذلك، ولا يدقّ المرمَى إلا بما تقدم من تقرير الشَّبه بين الأشياء المختلفة، فإنّ الأشياء المشتركة في الجنس، المتفقةَ في النوع، تستغني بثبوت الشَّبه بينها، وقيام الاتفاق فيها، عن تعمُّل وتأمل في إيجاب ذلك لها وتثبته فيها، وإنما الصّنعة والحِذْق، والنظرُ يَلْطُف وَيدِقّ، في أن تجمع أعناقُ المتنافرات والمتباينات في رِبْقة، وتُعقَد بين الأجنبيّات معاقدُ نسَب وشُبْكة، وما شرُفت صنعةٌ، ولاذُكر بالفضيلة عملٌ، إلا لأنهما يحتاجان من دِقّة الفكر ولُطف النظر نَفاذ الخاطر، إلى ما لا يحتاج إليه غيرهما، ويحتكمان على مَن زَاوَلَهما والطالب لهما من هذا المعنى، ما لا يحتكم ما عداهما، ولا يقتضيان ذلك إلاّ من جهة إيجاد الائتلاف في المختلفات، وذلك بَينٌ لك فيما تراه من الصناعات وسائر الأعمال التي تُنسَب إلى الدِقة، فإنك تجدُ الصورة المعمولة فيها، كلما كانت أجزاؤها أشدّ اختلافاً في الشكل والهيئة، ثم كان التلاؤمُ بينها مع ذلك أتمّ، والائتلافُ أبينَ، كان شأنها أعجبَ، والحذْقُ لمصوّرها أوجبَ، وإذا كان هذا ثابتاً موجوداً، ومعلوماً معهوداً، من حال الصُوَر المصنوعة والأشكال المؤلَّفة ، فاعلم أنها القضيّة في التمثيل واعمل عليها، واعتقِد صحّة ما ذكرتُ لك من أنّ أخْذَ الشَبَهِ للشيء مما يخالفُه في الجنس وينفصل عنه من حيث ظاهر الحال، حتى يكون هذا شخصاً يملأ المكان، وذاك معنًى لا يتعدَّى الأفهام والأذهان وحتى إن هذا إنسانٌ يعقِلُ، وذاك جمادٌ ومَوَات لا يتّصف بأنه يعلَم ويجهل وهذا نورُ شمس يبدو في السماء ويطلُع، وذاك معنى كلامِ يُوعى ويُسمع وهذا روحُ يحيا به الجسد، وذاك فضل ومكرمةٌ تؤثَر وتُحمَد، كما قال‏:‏

إنَّ المكارم أرواحٌ يكونُ لهـا *** آلُ المهلَّب دُونَ النَّاس أجسادَا

وهذا مقالُ متعصّبٍ مُنكِر للفضل حَسُودٍ، وذاك نارٌ تلتهب في عُود، وهذا مِخلاف ،وذاك وَرَق خِلاَف، كما قال ابن الرُّومِيّ‏:‏

بَذَل الوعدَ للأخِلاّءِ سَمْحـاً *** وأبَى بَعْدَ ذاكَ بَذْلَ العَطَاءِ

فغدَا كالخِلافِ يُورِقُ للعَي *** نِ ويأبى الإثمار كلَّ الإباء

وهذا رجلٌ يروم العدُوُّ تصغيره والإزراءَ به، فيأبى فضلُه إلاّ ظهوراً، وقدرُه إلا سموّاً، وذاك شهابٌ من نار تُصوَّبُ وهي تعلو، وتُخْفَض وهي ترتفع، كما قال أيضاً‏:‏

ثم حَاوَلْتَ بالمُثَيْقِيلِ تصْغـي *** ري فما زِدْتني سِوَى التَّعظيم

كالذي طَأَطَأَ الشِّهابَ ليخفَـى *** وهو أدنى لهُ إلى التَّضْـريم

وأخذ هذا المعنى من كلامٍ في حِكَم الهند، وهو‏:‏ إن الرجل ذا المروءة والفضل لَيكُونُ خاملَ المنزلةِ غامضَ الأمر، فما تبرح به مُروءته وعقلُه حتى يستبين ويُعرَف، كالشعلة من النار التي يصوِّبها صاحِبُها وتأبَى إلاّ ارتفاعاً‏.‏ هذا هو الموجب للفضيلة، والداعي إلى الاستحسان، والشفيع الذي أحْظَى التمثيل عند السامعين، واستدعى له الشغَف والوَلوع من قلوب العقلاء الراجحين، ولم تأتلف هذه الأجناس المختلفة للممثَّل، ولم تتصادف هذه الأشياء المتعادية على حكم المشبّه، إلا لأنه لم يراعِ ما يَحْضُر العَين، ولكن ما يستحضر العَقْلُ، ولم يُعْنَ بما تنال الرؤية، بل بما تعلَّق الروّية، ولم ينظر إلى الأشياء من حيث تُوعَى فتحويها الأمكنة بل من حيث تعِيها القلوب الفَطِنة، ثم على حسَب دِقّة المسلَك إلى ما استُخْرج من الشَّبه، ولُطْفِ المذهب وبُعد التَّصَعُّد إلى ما حصل من الوِفاق، استحقَّ مُدرِكُ ذلك المدحَ، واستوجب التقديمَ، واقتضاكَ العَقْلُ أن تنوِّه بذكره، وتقضي بالحُسْنَى في نتائج فكره، نَعَم، وعلى حسَب المراتِب في ذلك أعطيتَه في بعضٍ منزلةَ الحاذِق الصُّنَع، والمُلهم المؤيَّد، والألمعي المُحَدَّث، الذي سبق إلى اختراع نوعٍ من الصنعة حتى يصيرَ إماماً، ويكونَ مَنْ بعدَه تبعاً له وعِيالاً عليه وحتى تُعرَف تلك الصَّنعةُ بالنسبة إليه، فيقال صنعة فلان، وعمل فلان ووضعتَهُ في بعضٍٍ موضعَ المتعلمَّ الذكيُّ، والمقتدي المُصيب في اقتدائه، الذي يُحسن التشبُّهَ بمن أخذ عنه، ويُجيد حكاية العمل الذي استفادَ، ويجتهد أن يزداد‏.‏ واعلم أني لست أقول لك إنك متى أَلَّفتَ الشيء ببعيد عنه في الجنس على الجملة فقد أصبت وأحسنت، ولكن أقوله بعد تقييدٍ وبعد شرطٍ، وهو أن تصيبَ بين المختلفين في الجنس وفي ظاهر الأمر شبهاً صحيحاً معقولاً، وتجد للمُلاءمة والتأليف السويّ بينهما مذهباً وإليهما سبيلاً وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب تشبيهك، من حيث العقل والحَدْس، في وضوح اختلافهما من حيث العَين والحِسّ، فأمَّا أن تستكرهَ الوصف وتَرومَ أن تُصوَّره حيث لا يُتَصوّر، فلاَ لأنك تكون في ذلك بمنزلة الصَّانع الأخرق، يضع في تأليفه وصَوْغه الشكلَ بين شكلين لا يلائمانه ولا يقبَلانه، حتى تخرج الصورة مضطربةً، وتجيء فيها نتوّ، ويكون للعين عنها من تفاوتها نُبوّ، وإنما قيل‏:‏ شبَّهت، ولا تعني في كونك مشبِّهاً أن تذكر حرف التشبيه وتستعير، إنما تكون مشبِّهاً بالحقيقة بأن ترى الشَّبه وتبيَّنه، ولا يمكنك بيانُ ما لا يكون، وتمثيلُ ما لا تتمثَّله الأوهام والظنون، ولم أُرد بقولي إنّ الحذق في إيجاد الائتلاف بين المختلفات في الأجناس، أنك تقدر أن تُحِدث هناك مشابهةً ليس لها أصل في العقل، وإنما المعنى أنّ هناك مشابهات خَفِيّة يدقُّ المسلك إليها، فإذا تغلغل فكرُك فأدركها فقد استحققتَ الفضل، ولذلك يُشَبَّه المدقِّق في المعاني بالغائص على الدُرّ، ووِزان ذلك أن القِطَع التي يجيء من مجموعها صورة الشَّنْف والخاتم وغيرهما من الصور المركبّة من أجزاء مختلفة الشكل، لو لم يكن بينها تناسُبٌ، أمكنَ ذلك التناسُب أن يلائِم بينها الملائمة المخصوصة، ويوصَلَ الوصلَ الخاصَّ، لم يكُنْ ليحصل لك من تأليفها الصورةُ المقصودةُ، ألا ترى أنّك لو جئت بأجزاء مخالفةٍ لها في الشكل، ثم أردتها على أن تصير إلى الصورة التي كانت من تلك الأُولَى، طلبتَ ما يستحيل? فإنما استحققت الأُجرة على الغَوْص وإخراج الدُّر، لا أن الدُرّ كان بك، واكتَسَى شرفَه من جهتك، ولكن لمّا كان الوُصول إليه صعباً وطلبُه عسيراً، ثم رُزقت ذلك، وَجَبَ أن يُجْزَل لك، ويُكبَّر صنيعُك، ألا ترى أن التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدين في الجنس، ثم لَطُفَ وحسُن، لم يكن ذلك اللُّطف وذلك الحُسن إلا لاتفاقٍ كان ثابتاً بين المشَّبه والمشبَّه به من الجهة التي بها شَبَّهتَ، إلاّ أنه كان خفياً لا ينجلي إلا بعد التأنُّق في استحضار الصور وتذكُّرها، وعرض بعضها على بعض، والتقاطِ النُّكتة المقصودة منها، وتجريدِها من سائر ما يتّصل بها، نحو أن تُشَبّه الشيءَ بالشيء في هيئة الحركة، فتطلب الوفاق بين الهيئة والهيئة مجرّدةً من الجسم وسائر ما فيه من اللون وغيره من الأوصاف? كما فعل ابن المعتز في تشبيه البَرْق  حيث قال‏:‏يث قال‏:‏

وكأنَّ البَرْقَ مُصَحَفُ قَار *** فَانطِباقاً مَرّةً وانفِتَاحَ

لم ينظر من جميع أوصاف البرق ومعانيه إلا إلى الهيئة التي تجدها العين له من انبساطٍ يعقبه انقِباضٌ، وانتشارٍ يتلوه انضمامٌ، ثم فَلَى نفسَه عن هيئات الحركات لينظر أيُّها أشبه بها، فأصاب ذلك فيما يفعله القارئ من الحركة الخاصّة في المصحف، إذا جعل يفتحه مرة ويُطبقه أُخرى، ولم يكن إعجابُ هذا التشبيه لك وإيناسه إياك لأن الشيئين مختلفان في الجنس أشدَّ الاختلاف فقط، بل لأنّ حَصلَ بإزاء الاختلاف اتفاقٌ كأحسن ما يكون وأتمَّه، فبمجموع الأمرين شدّة ائتلافِ في شدّة اختلاف حلا وحسُن، ورَاقَ وفَتَن، ويدخل في هذا الوضع الحكاية المعروفة في حديث عَدِيّ بن الرِّقاع، قال جرير أنشدني عدي‏:‏ عَرَف الديارَ تَوَهُّمَاً فاعتادَهَ‏.‏ فلّما بلغ إلى قوله تُزْجِي أَغَنَّ كَأنَّ إبْرَةَ رَوْقِهِ‏.‏ رحِمتُه وقلتُ قد وقع ما عساه يقول وهو أعرابيٌّ جِلْفٌ جافٍ? فلما قال‏:‏ قَلَمٌ أَصَابَ من الدَّوَاة مِدَادَه استحالت الرَّحمة حسداً فهل كانت الرحمة في الأولى، والحسد في الثانية، إلا أنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضرُ له في أوّل الفكر وبديهة الخاطر، وفي القريب من محلّ الظنّ شبَهٌ، وحين أتمَّ التشبيه وأدَّاه صادفه قد ظِفَر بأقرب صفةٍ من أبعد موصوف، وعثر على خبيءٍ مكانُه غيرُ معروفٍ، وعلى ذلك استحسنوا قول الخليل في انقباض كفّ البخيل‏:‏

كفَاك لم تُخْلَقَا للـنَّـدَى *** ولم يَكُ بُخْلُهما بِـدْعَـهْ

فكفٌّ عن الخير مقبوضةٌ *** كما نُقضت مِئةٌ سَبْعـهْ

وكفٌّ ثـلاثةُ آلافـهـا *** وتِسْعُ مِئيها لها شِرْعَـهْ

وذلك أنه أراك شكلاً واحداً في اليدين، مع اختلاف العددين، ومع اختلاف المرتبتين في العدد أيضاً، لأن أحدهما من مرتبة العشرات والآحاد، والآخر من مرتبة المئين والألوف، فلما حَصَل الاتفاق كأشدَّ ما يكون في شكل اليد مع الاختلاف، كأبلغ ما يوجد في المقدار والمرتبة من العدد، كان التشبيه بديعاً، قال المرزباني وهذا ما أبدع فيه الخليل، لأنه وصف انقباض اليدين بحالين من الحساب مُختلفين في العدد، متشاكلين في الصورة، وقوله هذا إجمالُ ما فصّلتُه، ومما ينظُرُ إلى هذا الفصل ويُداخِله ويرجع إليه حين تحصيله، الجنْسُ الذي يُرَاد فيه كونُ الشيء من الأفعال سبباً لضدّه، كقولنا أحسن من حيث قَصَدَ الإساءة ونفع من حيث أراد الضُّرَّ، إذْ لم يقنع المتشاغِلُ بالعبارة الظاهرة والطريقة المعروفة، وصَوَّرَ في نفس الإساءة الإحسانَ، وفي البخلِ الجودَ، وفي المنع العطاءَ، وفي موجب الذمّ موجِبَ الحمد، وفي الحالة التي حقُّها أن تُعَدَّ على الرجل حُكْمَ ما يُعتدّ له، والفعلِ الذي هو بصفة ما يُعاب ويُنكر، صفةَ ما يَقْبَلُ المنّة ويُشكَر، فيدُلُّ ذلك بما يكون فيه من الوِفاقِ الحسن مع الخِلاف البيِّن، على حِذق شاعره، وعلى جُودة طبعه وحِدّة خاطره، وعلوّ مصعَده وبُعْد غوصه، إذا لم يفسده بسوء العبارة، ولم يخطئه التوفيقُ في تلخيص الدلالة، وكَشَفَ تمام الكشف عن سُرر المعنى وسِرِّه بحسن البيان وسِحْره، مثالُ ما كان من الشعر بهذه الصِّفة قولُ أبي العتاهية‏:‏

جُزَيَ البخيلُ عليَّ صالـحةً *** عنّي بخِفَّته على ظَهْـرِي

أُعلِي وأُكْرِم عـن يديه يدي *** فَعَلَتْ ونَزَّهَ قـدرُهُ قَـدْرِي

ورُزقتُ من جَدْواهُ عافـيةً *** أن لا يضيق بشُكْرِه صَدْرِي

وغَنِيتُ خِلْواً من تفضُّـلِـه *** أَحْنُو عليه بأحْسَن الـعُـذْرِ

مَا فاتني خَيْرُ امرئٍ وَضَعتْ *** عنّي يَداه مَؤُونةَ الشُّـكْـرِ

ومن اللطيف مما يُشبه هذا قول الآخر‏:‏

أعتَقَنِي سُوءُ ما صنعتَ من ال *** رِقِّ فيا بَرْدَهَا على كَـبِـدِي

فَصِرتُ عبداً للسُّوءِ فيك ومـا *** أحسنَ سُوءٌ قبلي إلـى أَحَـدِ